الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فشهيد المعركة قد اختلف فيه العلماء هل يغسل ويصلى عليه أو لا؟ فجمهورهم على أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبعضهم ذهب إلى أنه يغسل ويصلى عليه، وذهب آخرون إلى أنه لا يغسل ويصلى عليه، وسبب هذا الخلاف هو تعارض الروايات الواردة في شأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، وأصح تلك الروايات ما تمسك واستدل به الجمهور منها، أما باقي الروايات فإما أنها ضعيفة أو مؤولة كما يقول الإمام النووي رحمه الله.
ونحن نسوق لك كلامه هنا كاملا لأهميته في هذا الموضوع حيث تضمن ذكر الأقوال في المسألة وأدلتها مع المناقشة والترجيح.
يقول رحمه الله: (فرع): (في مذاهب العلماء في غسل الشهيد والصلاة عليه) قد ذكرنا أن مذهبنا تحريمها، وبه قال جمهور العلماء, وهو قول عطاء والنخعي وسليمان بن موسى ويحيى الأنصاري والحاكم وحماد والليث ومالك وتابعيه من أهل المدينة, وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري: يغسل ويصلى عليه, وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: يصلى عليه ولا يغسل، واحتج لأبي حنيفة بأحاديث أن {النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد, وصلى على حمزة صلوات}، (ومنها) رواية أبي مالك الغفاري رضي الله عنه أن {النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد: عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة} رواه أبو داود في المراسيل، وعن شداد بن الهادي {أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وذكر الحديث بطوله, وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم} رواه النسائي, وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن {النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت} رواه البخاري ومسلم, وفي رواية للبخاري صلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، واحتج أصحابنا بحديث جابر أن {النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا} رواه البخاري، وعن جابر أيضا أن {النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة، ولم يصل عليهم} رواه الإمام أحمد، وعن أنس {أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم} رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح، (وأما) الأحاديث التي احتج بها القائلون في الصلاة فاتفق أهل الحديث على ضعفها كلها إلا حديث عقبة بن عامر, والضعف فيها بين, قال البيهقي وغيره: وأقرب ما روي حديث أبي مالك, وهو مرسل, وكذا حديث شداد مرسل أيضا فإنهما تابعيان، وأما حديث عقبة فأجاب أصحابنا وغيرهم بأن المراد من الصلاة هنا الدعاء، (وقوله): صلاته على الميت، أي: دعا لهم كدعاء صلاة الميت, وهذا التأويل لا بد منه, وليس المراد صلاة الجنازة المعروفة بالإجماع; لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله عند موته بعد دفنهم بثمان سنين, ولو كان صلاة الجنازة المعروفة لما أخرها ثمان سنين, ودليل آخر وهو أنه لا يجوز أن يكون المراد صلاة الجنازة بالإجماع; لأن عندنا لا يصلى على الشهيد, وعند أبي حنيفة رحمه الله يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام, فوجب تأويل الحديث، ولأن أبا حنيفة لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى, وهذا منها والله أعلم، (فإن قيل): ما ذكرتموه من حديث جابر لا يحتج به; لأنه نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من رواية الإثبات (فأجاب أصحابنا) بأن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد, ولم تكن محصورة (أما) ما أحاط به علمه وكان محصورا فيقبل بالاتفاق, وهذه قصة معينة أحاط بها جابر وغيره علما, وأما رواية الإثبات فضعيفة فوجودها كالعدم إلا حديث عقبة وقد أجبنا عنه. اهـ
وبهذا يزول اللبس -إن شاء الله- ويعلم أن الصحيح في المسألة أن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد ولم يصل عليهم، وبالتالي فما ورد في الكتاب المشار إليه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة رضي الله عنه لعله مستند إلى الروايات السابقة التي بين العلماء ضعفها.
والله أعلم.