الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقصة سعيد بن الحرث أو ابن الحارث هذا مع الحورية، قد رواها ابن النحاس (المتوفى سنة 814هـ) في كتابه "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام"، ونقلها من كتاب أبي الحسن السلمي في فضائل الجهاد.
قال ابن النحاس: [روى أبو الحسن علي بن الخضر السلمي في كتاب "الجهاد" له بإسناده، عن رافع بن عبد الله، قال: قال لي هشام بن يحيى الكناني: لأحدثنَّك حديثًا رأيته بعيني وشهدته بنفسي، ونفعني الله -عز وجل- به، فعسى الله أن ينفعك به كما نفعني، قلت: حدثني يا أبا الوليد، قال: غزونا أرض الروم سنة ثمان وثلاثين (كذا عنده!) وعلينا مسلمة بن عبد الملك، وعبد الله بن الوليد بن عبد الملك، وهي الغزاة التي فتح الله -عز وجل- فيها الطُّوانة، وكنا رفقةً من أهل البصرة وأهل الجزيرة، في موضع واحد، وكنا نتناوب الخدمة والحراسة وطلب الزاد والعلوفات، وكان معنا رجل يقال له "سعيد بن الحارث"، ذو حظ من عبادة، يصوم النهار ويقوم الليل، فكنا نحرص أن نخفف عنه نوبته ونتولى ذلك، فيأبى إلا أن يكون في جميع الأمور من حيث لا يخلي شيئًا من عبادته. قال: وما رأيته في ليل ولا نهار قط، إلا على حال اجتهاده، فإن لم يكن وقت صلاة أو كنا نسير.. لم يفتر من ذكر الله ودراسة القرآن. قال هشام: فأدركني وإياه النوبةُ ذات ليلة في الحراسة ونحن محاصِرون حصنًا من حصون الروم قد استصعب علينا أمره. قال: فرأيت من سعيد بن الحارث في تلك الليلة من شدة الصبر على العبادة ما احتقرت معه نفسي، وعجبت من قوة جسمه على ذلك، وعلمت أن الله -عز وجل- يهب الفضل لمن يشاء، وأصبح كالًّا نَصِبًا لما كان منه في ليلته، فقلت له: رحمك الله، إن لنفسك عليك حقًّا، ولعينيك عليك حقًّا، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اكلَفوا من العمل ما تطيقون»، وذكرت له شبه هذا من الأحاديث. فقال لي: يا أخي، إنما هي أنفاسٌ تُعَد وعمر يفنى، وأنا رجلٌ أنتظر الموت وأبادر خروج نفسي. فأبكاني جوابه، ودعوت الله -عز وجل- له بالتثبيت والعون. ثم قلت له: نم قليلًا تسترح، فإنك لا تدري ما يحدث من أمر العدو، فإن حدث شيء كنت نشيطًا. قال: فنام إلى جانب الخباء، وتفرق أصحابنا، فمنهم من هو في القتال، ومنهم من هو في غير ذلك، وأقمت في موضعي أفتقد رجالتهم وأُصلح لهم طعامًا ينصرفون إليه. فإني لَكذلك إذ سمعت كلامًا في الخباء فأنكرته؛ إذ ليس فيه غير سعيد بن الحارث نائمًا، وظننت أن أحدًا دخله من حيث لم أره، فبادرت فدخلت، فإذا ليس فيه أحدٌ غيره، وهو نائم بحاله، إلا أنه يتكلم في نومه ويضحك، فأصغيت إليه فكأنما يخاطب إنسانًا، فحفظت من قوله: ما أحب أن أرجع، ثم مد يده اليمنى كأنه يلتمس شيئًا ثم ردها ردًّا رفيقًا وهو يضحك، ثم قال: فالليلة. ثم وثب من نومه وثبةً استيقظ لها وهو يرعد، فأتيت فاحتضنته إلى صدري مليًّا وهو يلتفت يمينًا وشمالًا، حتى سكن وعاد إليه فهمه، وجعل يهلل ويكبر ويحمد الله. فقلت له: يا أخي، ما شأنك؟ فقال: خيرًا يا أبا الوليد. قلت: إني قد رأيتك منك شيئًا وسمعت منك كلامًا في نومك، فحدثني بما رأيت. فقال: أوَ تُعفيني من ذلك يا أبا الوليد؟ فذكَّرته حق الصحبة، وقلت: حدثني -رحمك الله-، فعسى أن يجعل لي في ذلك عِظةً وخيرًا. فقال: إني لما نمت في وقتي هذا رأيت كأن القيامة قد قامت، وخرج العباد من قبورهم فوقفوا في موقفهم وشخصوا بأبصارهم ينتظرون أمر ربهم، فَبَيْنا أنا كذلك إذ أتاني رجلان لم أر قط مثل صورتهما كمالًا وحسنًا، فسلما عليَّ، فرددت عليهما السلام، فقالا: يا سعيد؛ أبشر فقد غُفر ذنبك وشُكر سعيك وقُبل عملك واستجيب دعاؤك وعُجلت لك البشرى في حياتك، فانطلق معنا حتى نريك ما أعد الله -عز وجل- لك من النعيم. قال: فانطلقتُ معهما حتى أخرجاني من جملة أهل الموقف، فإذا نحن ذاتَ اليمين بخَيلٍ لا تشبه خيلنا هذه، إنما هي كالبرق الخاطف، فركبناها فسارت بنا كهبوب الريح حتى انتهينا إلى قصر عظيم لا يقع الطرْف على أوله ولا على آخره ولا على ارتفاعه، ثم هو مع ذلك كأنه صيغ من فضة صافية، فهو نور يتلألأ، فلما وردْنا بابَه انفتح لنا من غير أن نستفتح، فدخلنا إلى ما لا يبلغه وصف واصف ولا يخطر على قلب بشر، وإذا في القصر من الوُصفاء والوصائف كعدد النجوم، كأنهم كما قال الله تعالى: {لؤلؤ مكنون}، فحين رأونا أخذوا في ألوان من القول الحسن بنغم مختلفة، وكلهم يخلطون بكلامهم: هذا ولي الله، وقد جاء ولي الله، ومرحبًا بولي الله. فسِرنا كذلك حتى انتهينا إلى مجالسَ ذاتِ أسِرَّة من ذهب، وإذا على كل سرير منها جاريةٌ لا يستطيع أحدٌ من خلق الله -عز وجل- وصفها، وفي وسطهن واحدة عالية عليهن في طولها وتمامها وجمالها وكمالها. فقال الرجلان: هذا منزلك، وهؤلاء أهلك وههنا مقيلك ومآلك عند ربك من الرضوان الأكبر. وانصرفا عني، ووثب الجواري نحوي بالترحيب والتعظيم والاستبشار، كما يكون من أهل الغائب عند قدومه عليهم، وحملوني حتى أجلسوني على السرير الأوسط إلى جانب تلك الجارية، وقلن لي: هذه زوجتك، ولك مثلها معها، وقد طال انتظارنا إياك. فكلمتني وكلمتها، فقلت لها: أين أنا؟ فقالت: في جنة المأوى، فقلت: من أنتِ؟ قالت: أنا زوجتك الخالدة، فقلت: فأين الأخرى؟ فقالت: في قصرك الآخر. فقلت: فإني أقيم عندكِ اليومَ ثم أتحول إلى تلك في غدٍ. ومددتُ يدي إليها فردَّتْها ردًّا رفيقًا، وقالت: أما اليوم فلا، إنك راجع إلى الدنيا. فقلت: ما أحب أن أرجع. فقالت: لا بد من ذلك، وستقيم ثلاثًا ثم تفطر عندنا من الليلة الثالثة -إن شاء الله-. فقلت: فالليلة الليلة. فقالت: إنه كان أمرًا مقضيًّا. ثم نهضَتْ عن مجلسها، فوثبتُ لقيامها فإذا أنا قد استيقظت. قال هشام: فقلتُ له: يا أخي أحدِثْ لله شكرًا فقد كشف لك عن ثواب عملك. فقال لي: يا أبا الوليد، هل رأى أحدٌ غيرك ما رأيتَ؟ فقلت: لا. فقال: فأسألك بالله -عز وجل- إلا سترتَ عليَّ ما دمتُ حيًّا. فقلت: نعم. فقال: ما فعل أصحابنا؟ فقلت: بعضهم في القتال وبعضهم في الحوائج. فقام فتطهر واغتسل ومس طيبًا وأخذ سلاحه وصار إلى موضع القتال، وهو صائم، فلم يزل يقاتل حتى الليل، وانصرف أصحابه وهو فيهم. فقالوا: يا أبا الوليد لقد صنع هذا الرجل شيئًا ما رأيناه صنعَ مثله قط، لقد حرص على الشهادة وطرح نفسه تحت سهام العدو وحجارتهم، فكل ذلك ينبو عنه، فقلت في نفسي: لو تعلمون شأنه لتنافستم في صنيعه. قال: وأفطر على شيء من الطعام، وبات ليلته قائمًا وأصبح صائمًا، فصنع كصنيعه بالأمس، وانصرف آخرَ النهار، فذكر عنه أصحابه مثل ما ذكروه بالأمس، حتى كان اليوم الثالث وقد مضت ليلتان. قال هشام: فانطلقتُ معه، وقلت: لا بد أن أشهد أمره وما يكون منه، فلم يُلقِ نفسه تحت مكايد العدو نهارَه كلَّه، ولا يصل إليه شيء، وهو يؤثر فيهم الآثار، وأنا أرعاه بطرْفي من بعيد لا أستطيع الدنو منه، حتى إذا تدلَّت الشمس للغروب وهو أنشط ما كان، فإذا برجل من فوق حائط الحصن قد تعمده بسهم فوقع في نحره فخر صريعًا، وأنا أنظر إليه، فصحتُ بالناس فابتدروه واجتذبوه وبه رمق، وجاءوا به يحملونه. فلما رأيته قلت: هنيئًا لك ما تفطر عليه الليلة، يا ليتني كنت معك! قال: فعض شفته السفلى وأومأ إلي بطرْفه وهو يضحك، يذكرني ما كان سألني من الكتمان عليه. ثم قال: الحمد لله الذي صدَقَنا وعده. فوالله ما تكلم بشيء غيرها، ثم قضى رحمه الله. قال هشام: فقلت بأعلى صوتي: يا عباد الله، لمثل هذا فليعمل العاملون، اسمعوا ما أُخبركم به عن أخيكم هذا. فأقبل الناس إليَّ فحدثتهم بالحديث على وجهه، فما رأيت قطُّ أكثرَ من تلك الساعة باكيًا، ثم كبروا تكبيرةً اضطرب لها العسكر، وجعل الناسُ يخبر بعضهم بعضًا حتى ذاع الحديث في جميعهم، فأقبلوا للصلاة عليه، وبلغ مسلمةَ بنَ عبد الملك، فأقبل وقد وضعناه لنصلي عليه. فلما حضر قلنا: إن رأى الأمير -أصلحه الله- أن يصلي عليه! فقال: بل يصلي عليه صاحبه الذي عرف من أمره ما عرف. قال هشام: فصليتُ عليه ودفنّاه في موضعه وعمَّينا أثرَ القبر، وبات الناس يذكرون حديثه، ويُحرّض بعضهم بعضًا، ثم أصبحوا فنهضوا إلى الحصن بنِيَّاتٍ مجدَّدة وقلوبٍ مشتاقة إلى لقاء الله -عز وجل-، فما أضحى النهار حتى فتح الله الحصن ببركته -رحمه الله-]. انتهى كلامه.
فهذه هي القصة، ولم نعرف رجال إسناد السُّلَمي، وأبو الحسن السلمي هو علي بن الخضر بن سليمان السلمي، المعروف بالصوفي، توفي في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وأربعمائة.
والسُّلَمي هذا ساقط الرواية، قال عنه عبد العزيز الكتَّاني في "ذيل تاريخ مولد العلماء ووفياتهم": [صنف كتبًا كثيرة، لم يكن هذا الشأن من صنعته، وخلط تخليطًا عظيمًا، كان يروي أشياءَ ليست له سماعًا ولا إجازةً، عفا الله عنا وعنه]. اهـ.
أما سعيد بن الحارث: فلم نعرفه، ومن هذه الرواية يتبين أنه كان جنديًّا مجاهدًا شارك في حرب الروم في الطُّوانة، وتوفي سنة ثمانٍ وثمانين هجرية، وهي السنة التي كانت فيها تلك الغزوة والفتح، خلافًا لما جاء عند ابن النحاس في هذه الرواية من أنه سنة ثمان وثلاثين، ولعل الخطأ من السلمي، ولم نقف على كتابه.
قال ابن قتيبة في "المعارف": [وفي سنة ثمان وثمانين كان فتح «الطُّوانة» من أرض الروم، فتحها مسلمة أخو الوليد بن عبد الملك]. اهـ.
والذي كان مع مَسلمةَ بنِ عبد الملك في قيادة العسكر هو ابن أخيه العباسُ بن الوليد بن عبد الملك، وليس عبدَ الله كما في رواية السُّلَمي، وهو ما اتفق عليه المؤرخون؛ كخليفة بن خياط، وابن جرير الطبري، وابن عساكر، وابن الجوزي، وابن كثير، وغيرهم.
فإن كان هذان الوهمانِ من السُّلَمي نفسِه فذلك يؤكد ما قاله فيه الكتَّاني -رحمه الله-.
وعلى كلٍّ؛ فإن هذه القصة وإن لم تثبتْ بإسناد صحيح، إلا أنه لا بأس بذكرها من باب الاستئناس والعبرة، وأهل العلم يتساهلون في مثل هذه الحكايات التي ليست بأحاديث نبوية ولا يترتب عليها اعتقاد أو أحكامٌ، وليس في هذه الحكاية ما هو ممتنعٌ شرعًا ولا عقلًا ولا عادةً، فغايةُ ما فيها أنها رؤيا حق، أراها الله -عز وجل- من شاء من عباده الصالحين، وتحققت، وقد حصل لكثيرٍ من هذه الأمة غير سعيد بن الحارث المذكور -رحمه الله- من جنس ما حصل معه.
وقد ثبت في صحيح البخاري، وغيره، من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة».
ورواه مسلم من حديث ابن عباس، قال: كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الستارة والناس صفوفٌ خلف أبي بكر، فقال: «أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له».
وله عن أبي قتادة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يُحب، فلا يحدث بها إلا من يحب».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [أئمَّةُ الدِّين وهداةُ المسلمين وصالحُو المجاهدين أهلُ الإيمان والقرآن، والحاملُ النَّاصرُ للإيمان والقرآن، هُم صَفْوةُ الله من عباده وخِيَرَتُه من خلقِه، وموضعُ نظرِ اللهِ إلى الأرضِ، وورثةُ الأنبياء وخَلَفُ الرُّسُل، قال الله تعالى فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. والبُشْرَى قد فَسَّرَها النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرؤيا الصَّالحةِ يَراها المؤمنُ أو تُرَى له، وبالثَّناءِ الحَسَنِ مِن المؤمنين]. اهـ. من "رسالة في اتباع الرسول" ضمن جامع المسائل لابن تيمية، بتحقيق عزير شمس، المجموعة الخامسة.
والله أعلم.