الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فسبيل الوصول إلى جنة الله تعالى قد تكفل الله تعالى ببيانه أتم بيان، وقد أوضحته سورة قصيرة في مبناها كبيرة في معناها، قال عنها الشافعي -رحمه الله-: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم. وهي سورة العصر، يقول تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {العصر3:1}.
فأقسم الله تعالى على خسار جميع البشر إلا صنفًا واحدًا تحلوا بأربع صفات فنجوا بها من الخسار، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى في هذا السبيل، وقد أوضح المحقق ابن القيم -رحمه الله- هذا المعنى غاية الإيضاح، فقال ما عبارته: قوله تعالى: والعصر * إِن الْإِنْسَان لفي خسر * إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} قَالَ الشَّافِعِي -رضى الله عَنهُ-: لَو فكر النَّاس كلهم فِي هَذِه السُّورَة لكفتهم.
وَبَيَان ذَلِك: أن الْمَرَاتِب أربع، وباستكمالها يحصل للشَّخْص غَايَة كَمَاله؛ إحداها: معرفَة الْحق.
الثَّانِيَة: عمله بِهِ.
الثَّالِثَة: تَعْلِيمه من لَا يُحسنهُ.
الرَّابِعَة: صبره على تعلمه، وَالْعَمَل بِهِ، وتعليمه.
فَذكر تَعَالَى الْمَرَاتِب الأربع فِي هَذِه السُّورَة، وأقسم -سُبْحَانَهُ- فِي هَذِه السُّورَة بالعصر أن كل أحد فِي خسر إلا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وهم الَّذين عرفُوا الْحق وَصَدقُوا بِهِ فَهَذِهِ مرتبَة، وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وهم الَّذين عمِلُوا بِمَا علموه من الْحق، فَهَذِهِ مرتبَة أخرى، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وصّى بِهِ بَعضهم بَعْضًا تَعْلِيمًا وإرشادًا، فَهَذِهِ مرتبَة ثَالِثَة، وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ صَبَرُوا على الْحق، ووصى بَعضهم بَعْضًا بِالصبرِ عَلَيْهِ، والثبات، فَهَذِهِ مرتبَة رَابِعَة، وهذا نهاية الْكَمَال؛ فَإِن الْكَمَال أن يكون الشَّخْص كَامِلًا فِي نَفسه مكملًا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية، والعملية، فصلاح الْقُوَّة العلمية بالإيمان، وَصَلَاح الْقُوَّة العملية بِعَمَل الصَّالِحَات، وتكميله غَيره بتعليمه إياه، وَصَبره عَلَيْهِ، وتوصيته بِالصبرِ على الْعلم وَالْعَمَل، فَهَذِهِ السُّورَة على اختصارها هِيَ من أجْمَعْ سور الْقُرْآن للخير بحذافيره، وَالْحَمْد لله الَّذِي جعل كِتَابه كَافِيًا عَن كل مَا سواهُ شافيًا من كل دَاء هاديًا إلى كل خير. انتهى.
فعليك -أخي- بتعلم ما ينفعك من علوم الشريعة، ثم اجتهد في العمل بما تتعلمه، ودعوة الناس إليه، واصبر على ما ينالك من الأذى في هذا السبيل، فبقدر اتصافك بما ذكر يكون حظك من النجاة، والسعادة، وفوزك بالحسنى وزيادة -وفقنا الله وإياك لما فيه صلاح دنيانا، وآخرتنا-.
والله أعلم.