الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالعلماء اختلفوا في الذي ينبغي للعبد في حال صحته، فمنهم من ذهب إلى أن الأولى تقوية جانب الخوف على جانب الرجاء؛ لأن ذلك أدعى للعمل وعدم الاتكال، ومنهم من رأى أن الذي ينبغي اعتدالهما.
قال ابن القيم رحمه الله: الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ. هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَسَدَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ: اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ. وَالرَّجَاءُ حَادٍ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. انتهى.
وإذا علمت هذا، فإن تقوية الخوف تكون بتقوية مادته، وذلك باستحضار صفات جلال الرب تبارك وتعالى، وكونه شديد العقاب، وأنه سبحانه إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وتأمل وقائعه سبحانه في الماضين، وما أهلك به الأمم الغابرة، والتفكر في عيوب النفس وآفاتها، واستحضار التقصير والتفريط من العبد، فكل ذلك يقوى به جانب الخوف جدا، فلا يأمن العبد مكر الله، ويخشى أن يأخذه ربه ببعض ذنوبه، وأما تقوية جانب الرجاء فتحصل بالتفكر في صفات جمال الرب تعالى وسعة رحمته، وعظيم بره وإحسانه، وواسع جوده ولطفه بعبده، والتفكر كذلك في نعمه التي تغمر العباد.
فكل هذا يوجب للعبد حسن الظن بربه، وعدم اليأس من روحه، والقنوط من رحمته، فكلما شعر العبد أن أحد الجانبين قد غلب عليه، فإن أراد تعديلهما، فليستحضر المعاني المقوية للجانب الآخر، حتى يقوى فيتعادل الجانبان، وإن قوي جانب الخوف، فهي حال حسنة داعية للعمل، وعدم الاتكال.
والله أعلم.