الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لم نعثر بعد البحث في نصوص الوحيين وكلام أهل العلم على أعمال توصف بكونها من عزم الأمور عدا ما جاء في السور الثلاث، ولكن أهل العلم فسروا عزم الأمور بالأمور التي ندب إليها الشرع، كذا قال العيني في شرح البخاري.
فينبغي أن نكثر من التأمل في نصوص الوحيين، ونبحث عن الأوامر التي حرض عليها الشرع ورغب، ونعمل بها، ولعل مما يساعد على ذلك مطالعة كتب الترغيب والرقائق؛ كرياض الصالحين، والترغيب والترهيب، والمتجر الرابح، وكتب ابن القيم.
ولكن الأحكام الشرعية منها ما شُرِع أصالة للظروف العادية، ومنها ما شُرِع للحالات الاستثنائية تخفيفًا على المكلف، فما شرع للحالات العادية يسمى عزيمة، ويجب الالتزام به في حال الرخاء، وما شرع للحالات الاستثنائية يسمى رخصة يرخص فيه عند الضرورة، ومثال ذلك: الصوم، وإتمام الصلاة في حال الإقامة، والفطر والقصر في حال السفر.
والمسلم يجب أن يمتثل أمر الله في كل حال، وأن تطمئن نفسه لأحكام الشريعة كلها، قال عليه الصلاة والسلام: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ. من الأربعين النووية، رواه النووي في كتاب الحجة. فإذا ما تعرّض لظرف من الظروف التي شرع فيها الإسلام الرخص ينبغي له أن يأخذ بالرخصة حتى تعتاد نفسه العمل بأحكام الشريعة كلها، ففي السفر يجمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، ويقصر الصلاة الرباعية، وله أن يفطر إن كان سفره في رمضان، وله أن يأكل الميتة إن خشي الهلاك ... إلخ.
والأفضل أن يقصر أخذًا برخصة الله تعالى لعباده في ذلك، فالله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، كما ثبت في مسند أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه. وفي رواية عن الطبراني، والبزار، وابن حبان: كما يحب أن تؤتى عزائمه. والحديث حسنه الألباني.
والمراد بالعزائم: الفرائض، كما في حديث أبي يعلى: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عُمَرَ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، بَيَّاعُ الْخُمُرِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَحْمَةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" قُلْتُ: وَمَا عَزَائِمُهُ؟ قَالَتْ: فَرَائِضُهُ. اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة السؤال الآتي: هل الأخذ بالرخص في الدين يعتبر تجاوزًا وتهاونًا؟
وجاء في الجواب: الأخذ بالرخصة في الدين إن كان المقصود بها الرخصة الشرعية التي شرعها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، كالرخصة للمسافر الصائم أن يفطر وقت سفره، وأن يقصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وأن يجمع بين صلاة الظهر والعصر، أو بين صلاة المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تقديم أو تأخير أثناء سفره، وكالرخصة في المسح على الخفين، ونحو ذلك، فإن الأخذ بهذه الرخصة الشرعية في حق هؤلاء أفضل، وإن لم يأخذ بها، بل صام أثناء سفره ولم يقصر الصلاة، ولم يجمع بين الصلوات المذكورة، ولم يمسح على الخفين، بل خلعهما، وغسل الرجلين، فلا حرج ولا إثم عليه، لكنه ترك الأفضل والأولى، ويدل لذلك ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. رواه الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في الأوسط، وفي رواية لابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجاله ثقات.
أما إن كان المراد بالأخذ بالرخص في الدين هو الأخذ بالأسهل، وما يوافق هوى الإنسان من فتاوى وأقوال العلماء، فإن ذلك غير جائز، والواجب على الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يحرص على إبراء ذمته، فلا يتبع إلا ما صح به الدليل من كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان جاهلًا بالحكم فإنه يسأل أهل الذكر ممن يوثق بعلمه وفتواه، ولا يكثر من سؤال العلماء في المسألة الواحدة، فيتبع الأسهل له، وما يوافق هواه، فإن ذلك دليل على تفريطه، وإهماله لأمور دينه، وقد أثر عن بعض السلف قوله: من تتبع رخص العلماء فقد تزندق، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
والله أعلم.