الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالدعاء والتضرع إلى الله من أجلِّ العبادات، ولذا أمر الله به عباده فقال -عزَّ وجلَّ-: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
وفي مسند أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من لم يسأل الله يغضب عليه.
وللدعاء آداب ينبغي على الداعي مراعاتها ليكون ذلك أرجى لقبول دعائه وإجابة مسألته، ومن هذه الآداب عدم الاعتداء في الدعاء كما قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].
وفي مسند أحمد عن أبي عباية عن مولى لسعد: أن سعداً -رضي الله عنه- سمع ابناً له يدعو وهو يقول: "اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوًا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها" فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وإن حسبك أن تقول: "اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وقد قرر أهل العلم أن من الاعتداء في الدعاء: أن يثني الداعي على الله تعالى بما لم يثِن به تعالى على نفسه، فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب، وهذه العبارة المسؤول عنها، قد تضمنت الثناء على الله بما لم يثِن به سبحانه على نفسه، كما في قولك "وجهك الكريم خير من الدنيا وما فيها"، فإن المفاضلة بين الخالق والمخلوق فيها نوع غضاضة على الخالق، وإذا كان من العيب أن يفاضل بين مخلوق شريف القدر ومخلوق وضيع القدر كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وكما قيل:
إذا أنت فضلت امرأ ذا براعة على ناقص كان المديح من النقص
فكيف بالمفاضلة بين الخالق والمخلوق، ولهذا فلا ينبغي الدعاء بمثل هذه العبارة وإن كان مقصد الداعي صحيحاً، كأن يقصد أن الإخلاص لله خير من الدنيا وما فيها، فهذا معنى صحيح ولكن لا ينبغي التعبير عنه بمثل هذه العبارات.
ولهذا ينبغي للداعي أن يدعو بالمأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه أكمل وأفضل من غيره باتفاق المسلمين، ولو كان غيره جائزاً، فكيف إذا كان غيره فيه خطأ أو إثم أو كلام محتمل، وإذا عرفت هذا، فهذه العبارة ليست كفراً لما عُلمِ من أن قائلها لا يقصد الاستهانة، بجناب الربوبية وإنما أراد معنى صحيحاً فأخطأ في التعبير، وليس تمني الموت كفراً، بل تارة يكون مكروهاً، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يتمنينّ أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي. وقوله "من ضر أصابه" حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي ويؤيد ذلك رواية ابن حبان: لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا.
والحكمة من النهي عن تمني الموت في هذه الحالة ما فيه من نوع اعتراض ومراغمة للقدر، وتارة يكون مباحاً إذا كان لخوف فتنة في الدين، كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون.
وفي الموطأ عن عمر أنه قال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط.
ومن هذا تعلم أن قولك في العبارة المسؤول عنها "يا رب ارحمني من الدنيا" إذا كنت تقصد بها سؤال الموت والخلاص من الدنيا؛ فهي على التفصيل المذكور، وإذا كنت تقصد سؤال أن يخلصك الله من فتنة الدنيا فحسن.
والله أعلم.