الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل المذاهب الأربعة ـ بفضل الله ـ على السنة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها على صواب من حيث الجملة، يقول الشيخ ابن باز: هذه المذاهب الأربعة هي مذاهب معروفة انتشرت في القرن الثاني وما بعده، أما مذهب أبي حنيفة فقد عرف وانتشر في القرن الثاني، وهكذا مذهب مالك في القرن الثاني ـ وأما مذهب الإِمام الشافعي وأحمد فانتشر مذهبهما في القرن الثالث، وكلهم على خير وهدى، وهدفهم تحري الحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس معناه أن كل واحد منهم معصوم ولا يقع منه الخطأ، بل كل واحد منهم له أغلاط حسب ما بلغهم من السنة، وحسب ما عرفوه من كتاب الله عز وجل، فقد يفوت بعضهم شيء من العلم بكتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفتي بما علم، وهذا أمر معلوم عند أهل العلم. اهـ
ورجحان أي من هذه المذاهب إنما يتحدد تبعا لقوة دليلها من الكتاب أو السنة.
وقد سبق بيان ذلك بالأدلة وأقوال أهل العلم في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 32653، 56633، 96735، 112309، وما أحيل عليه فيها.
وبناء عليه فلا نرى أنه يستقيم وصف أي من المذاهب الأربعة بأنه الأصح على وجه العموم، وإنما يمكن إطلاق ذلك في بعض الجزئيات والمسائل بحسب الدليل، فنقول ـ مثلا ـ: إن المسألة الفلانية الأصح فيها مذهب مالك أو الشافعي... وهكذا، يقول الطوفي في شرح مختصر الروضة: مَنْ نَفَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصِحُّ تَرْجِيحَ مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، أَثْبَتَهُ بِاعْتِبَارِ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِجْزَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَنَحْوهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أَرْجَحُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَهَارَةِ الْأَعْيَانِ بِالِاسْتِحَالَةِ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْقَابِلَةِ لِلرُّجْحَانِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ. اهـ
وجاء في المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: فَلَا يُقَال مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب أبي حنيفَة أَو غَيرهمَا أَو بِالْعَكْسِ لَكِن هَذَا بِاعْتِبَار مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر وَأما من حَيْثُ الْأَدِلَّة على الْمسَائِل فالترجيح ثَابت. اهـ
وأما مسألة جمع الإمام مالك علمه من أهل المدينة فهو ـ بلا شك ـ ميزة عظيمة لمذهبه، لكن الترجيح المعتبر في هذا الصدد هو موافقة الدليل كما قدمنا، ثم إن المذهب المالكي لم يقتصر على ما جمعه الإمام مالك من علم أهل المدينة، بل هناك اختيارات كثيرة لتلاميذه وغيرهم من فقهاء المذهب الذين انتشروا في مختلف أصقاع الأرض.
وبالتالي فإنه يصعب إطلاق الحكم بكونه أصح المذاهب؛ فلكل مذهب مميزاته وما يرجحه عند أصحابه، وكل مذهب يظهر رجحانه وموافقته للدليل في بعض المسائل كما سبق.
والله أعلم.