الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى قد بعث الأنبياء من البشر، ولم يجعلهم ملائكة؛ ليمكن التأسي بهم في الفعل والترك، فهم بشر مثلنا، يعتريهم ما يعتري البشر من النوازع، والرغبات، سوى أنهم يوجهون طاقاتهم، وميولهم إلى ما فيه مرضاة ربهم -تبارك وتعالى-، وقد تنازع العلماء في عصمة الأنبياء نزاعًا أشرنا إليه في الفتوى رقم: 177895.
فعلى القول بأنهم قد تقع منهم الذنوب، ولكنهم يتداركونها بالتوبة؛ فهم أسوة للناس في هذا الصنيع، وعلى القول بعصمتهم، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأما من عداهم من المكلفين، فقد أقام الله عليهم الحجج، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقطع المعاذير، وبيّن السبيل، وهدى النجدين؛ لئلا يكون لأحد عليه حجة، فله سبحانه الحجة البالغة على جميع خلقه، وليس لأحد عليه حجة سبحانه وبحمده، وقد أوجدهم قادرين على فعل ما كلفهم به، وترك ما نهاهم عنه، ولم يكلفهم إلا وسعهم، وسبقت رحمته غضبه، فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، وجعل السيئة بمثلها، ثم فتح للناس باب التوبة، فلا يغلق ما دامت أرواحهم في أجسادهم، وكل هذا من مظاهر رحمته بعباده، وقطعه المعاذير عنهم؛ ولذلك لا يجد أحد سبيلًا يوم القيامة ليحتج على الله تعالى، أو يدعي أنه ظلمه، فهو المحمود على ما شرعه لعباده، وأمرهم به ونهاهم عنه، وهو المحمود على ما قدره وقضاه، وقد قال تعالى في خاتمة سورة الزمر: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {الزمر:75}؛ فأبهم القائلَ دلالة على أن الكون كله ينطق بذلك، ويشهد بأنه سبحانه المستحقّ للحمد على جميع أفعاله؛ قال ابن القيم: فحذف فاعل القول لأنه غير معين، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه؛ فيحمده أهل السماوات وأهل الأرض، والأبرار والفجار، والإنس والجن، حتى أهل النار. قال الحسن، أو غيره: لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلًا. انتهى.
والحاصل: أنه ليس لأحد أن يحتج بعصمة الأنبياء على أن من عداهم مبخوس الحظ مهضوم الجانب، بل الأمر كما قال الله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ {الأنعام:149}.
والله أعلم.