الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.
والمراد بهذا الحديث أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتاج في معرفة مواقيت عبادتها إلى الكتاب والحساب كما هو حال غيرها من الأمم، قال ابن الملقن: أي: لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتاب، إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحُسَّاب وغيرهم .اهـ.
وقال ابن تيمية: كما في الصحيح عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا ـ فلم يقل إنا لا نقرأ كتابا ولا نحفظ، بل قال: لا نكتب ولا نحسب ـ فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب كما عليه أهل الكتاب من أنهم يعلمون مواقيت صومهم وفطرهم بكتاب وحساب، ودينهم معلق بالكتب لو عدمت لم يعرفوا دينهم .اهـ.
فليس في هذا الحديث نهي عن تعلم الكتاب والحساب أبدا، وننقل هاهنا كلاما مفيدا لابن تيمية في معرض تعليقه على هذا الحديث، فيه بيان مستفيض لمعنى الأمية، وأنها ليست بمعنى الجهل في كل حال، وليست مذمومة بإطلاق ـ كما يتوهم البعض ـ وبين فيه أن الشرع لم يأت بالنهي عن تعلم الكتاب والحساب أو غيرها من العلوم النافعة، قال ابن تيمية: فقوله: إنا أمة أمية ـ ليس هو طلبا، فإنهم أميون قبل الشريعة، كما قال الله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ـ وقال: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ـ فإذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المبعث لم يكونوا مأمورين بابتدائها، نعم قد يؤمرون بالبقاء على بعض أحكامها، فإنا سنبين أنهم لم يؤمروا أن يبقوا على ما كانوا عليه مطلقا، فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون هذا إخبارا محضا أنهم لا يفعلون ذلك وليس عليهم أن يفعلوه، إذ لهم طريق آخر غيره ولا يكون فيه دليل على أن الكتاب والحساب منهي عنه، بل على أنه ليس بواجب، فإن الأمية صفة نقص ليست صفة كمال، فصاحبها بأن يكون معذورا أولى من أن يكون ممدوحا، قيل: لا يجوز هذا، لأن الأمة التي بعثه الله إليها فيهم من يقرأ ويكتب كثيرا كما كان في أصحابه، وفيهم من يحسب، وقد بعث صلى الله عليه وسلم بالفرائض التي فيها من الحساب ما فيها وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عامله على الصدقة ـ ابن اللتبية ـ حاسبه، وكان له كتاب عدة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد ومعاوية يكتبون الوحي ويكتبون العهود ويكتبون كتبه إلى الناس إلى من بعثه الله إليه من ملوك الأرض ورؤوس الطوائف، وإلى عماله وولاته وسعاته وغير ذلك، وقد قال الله تعالى في كتابه: لتعلموا عدد السنين والحساب ـ في آيتين من كتابه، فأخبر أنه فعل ذلك ليعلم الحساب، وإنما الأمي: هو في الأصل منسوب إلى الأمة التي هي جنس الأميين وهو من لم يتميز عن الجنس بالعلم المختص: من قراءة أو كتابة، كما يقال: عامي لمن كان من العامة غير متميز عنهم بما يختص به غيرهم من علوم: وقد قيل: إنه نسبة إلى الأم: أي هو الباقي على ما عودته أمه من المعرفة والعلم ونحو ذلك، ثم التميز الذي يخرج به عن الأمية العامة إلى الاختصاص: تارة يكون فضلا وكمالا في نفسه، كالمتميز عنهم بقراءة القرآن وفهم معانيه، وتارة يكون بما يتوصل به إلى الفضل والكمال: كالتميز عنهم بالكتابة وقراءة المكتوب فيمدح في حق من استعمله في الكمال ويذم في حق من عطله أو استعمله في الشر، ومن استغنى عنه بما هو أنفع له كان أكمل وأفضل، وكان تركه في حقه مع حصول المقصود به أكمل وأفضل، فإذا تبين أن التميز عن الأميين نوعان: فالأمة التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم أولا هم العرب وبواسطتهم حصلت الدعوة لسائر الأمم، لأنه إنما بعث بلسانهم فكانوا أميين عامة ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره مع كون فطرهم كانت مستعدة للعلم أكمل من استعداد سائر الأمم، بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع، لكن ليس لها من يقوم عليها فلم يكن لهم كتاب يقرؤونه منزل من عند الله كما لأهل الكتاب ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصابئة ونحوهم، وكان الخط فيهم قليلا جدا وكان لهم من العلم ما ينال بالفطرة التي لا يخرج بها الإنسان عن الأموة العامة، كالعلم بالصانع سبحانه وتعظيم مكارم الأخلاق وعلم الأنواء، والأنساب والشعر، فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه، كما قال فيهم: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ـ وقال تعالى: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ـ فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب، فالكتابي غير الأمي، فلما بعث فيهم ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب وتدبره وعقله والعمل به ـ وقد جعله تفصيلا لكل شيء وعلمهم نبيهم كل شيء حتى الخراءة ـ صاروا أهل كتاب وعلم، بل صاروا أعلم الخلق وأفضلهم في العلوم النافعة وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة وهي عدم العلم والكتاب المنزل إلى أن علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب، فصارت هذه الأمية: منها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو نقص وترك الأفضل، فمن لم يقرأ الفاتحة أو لم يقرأ شيئا من القرآن تسميه الفقهاء في باب الصلاة أميا، ويقابلونه بالقارئ فيقولون: لا يصح اقتداء القارئ بالأمي، ويجوز أن يأتم الأمي بالأمي، ونحو ذلك من المسائل، وغرضهم بالأمي هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة، سواء كان يكتب أو لا يكتب، يحسب أو لا يحسب، فهذه الأمية منها ما هو ترك واجب يعاقب الرجل عليه، إذا قدر على التعلم فتركه، ومنها ما هو مذموم كالذي وصفه الله عز وجل عن أهل الكتاب حيث قال: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ـ فهذه صفة من لا يفقه كلام الله ويعمل به، وإنما يقتصر على مجرد تلاوته، كما قال الحسن البصري: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا ـ فالأمي هنا قد يقرأ حروف القرآن أو غيرها ولا يفقه، بل يتكلم في العلم بظاهر من القول ظنا، فهذا أيضا أمي مذموم كما ذمه الله، لنقص علمه الواجب سواء كان فرض عين أم كفاية، ومنها ما هو خلاف الأفضل الأكمل، كالذي لا يقرأ من القرآن إلا بعضه ولا يفهم منه إلا ما يتعلق به، ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب عليه، فهذا أيضا يقال له أمي وغيره ممن أوتي القرآن علما وعملا أفضل منه وأكمل، فهذه الأمور المميزة للشخص من الأمور التي هي فضائل وكمال: فقدها إما فقد واجب عينا أو واجب على الكفاية، أو مستحب وهذه ـ أي: الأمور التي هي فضائل وكمال ـ يوصف الله بها وأنبياؤه مطلقا، فإن الله عليم حكيم جمع العلم والكلام النافع طلبا وخبرا وإرادة، وكذلك أنبياؤه ونبينا سيد العلماء والحكماء، وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها، فهذه مثل الكتاب ـ الذي هو الخط ـ والحساب، فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه لا تتم بدونها وفقدها نَقَص، فإذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله ـ كالذي يتعلم الخط فيقرأ به القرآن، وكتب العلم النافعة أو يكتب للناس ما ينتفعون به ـ كان هذا فضلا في حقه وكمالا، وإن استعان به على تحصيل ما يضره أو يضر الناس ـ كالذي يقرأ بها كتب الضلالة ويكتب بها ما يضر الناس كالذي يزور خطوط الأمراء والقضاة والشهود ـ كان هذا ضررا في حقه وسيئة ومنقصة، وإن أمكن أن يستغنى عنها بالكلية بحيث ينال كمال العلوم من غيرها، وينال كمال التعليم بدونها: كان هذا أفضل له وأكمل، وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ـ فإن أميته لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب، فإنه إمام الأئمة في هذا، وإنما كان من جهة أنه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبا، كما قال الله فيه: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ـ وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول أكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله وأكبر معجزاته، فإن الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له، ولما كان قد دخل في الكتب من التحريف والتبديل، وعلّم هو صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده.... إلى أن قال: وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط، ومن جهة أن فيهما تعبا كثيرا بلا فائدة فإن ذلك شغل عن المصالح، إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه. اهـ.
وليُعلم أن العلوم الدنيوية النافعة التي تحتاجها الأمة قد بين جمع من العلماء أنها من فروض الكفايات التي يجب على الأمة بمجموعها القيام بها، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 277666، وإحالاتها.
والله أعلم.