الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقصة حاتم الأصم وشوقه للحج، وتركه أهله، وما أخلف الله عليهم في ذلك، لم نطلع عليها مسندة في كتب التواريخ، والتراجم، ولكن ذكرها شهاب الدين الأبشيهي في المستطرف في كل فن مستظرف دون سند، فقال: وحكي أن حاتمًا الأصم كان رجلًا كثير العيال، وكان له أولاد ذكور وإناث، ولم يكن يملك حبة واحدة، وكان قدمه التوكل، فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم، فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده، فجلس معهم يحدثهم، ثم قال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجًّا، ويدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته، وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا، ونحن على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك، ونحن بهذه الحالة؟! وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له، ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مناول للرزق، وليس برزاق. فذكرتهم ذلك، فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة، يا أبانا، انطلق حيث أحببت. فقام من وقته، وساعته، وأحرم بالحج، وخرج مسافرًا، وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسف على فراقه أصحابه، وجيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، ويقولون: لو سكت ما تكلمنا. فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي، وسيدي، ومولاي، عودت القوم بفضلك، وأنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم، ولا تخجلني معهم. فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدًا، فانقطع عن عسكره، وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم، فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب، فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء، وقالت: إلهي، وسيدي، سبحانك البارحة بتنا جياعًا واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا. ثم إنها أخذت كوزًا جديدًا، وملأته ماء، وقالت للمتناول منها: اعذرونا. فأخذ الأمير الكوز، وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك الماء، فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به. فقال الوزير: يا سيدي، لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج، وسافر ولم يخلف لعياله شيئًا، وأخبرت أنهم البارحة باتوا جياعًا. فقال الأمير: ونحن أيضًا قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن يثقل مثلنا على مثلهم. ثم حل الأمير منطقته من وسطه، ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليلق منطقته. فحل جميع أصحابه مناطقهم، ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا. فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق. فلما أنزل الأمير رجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالًا جزيلًا، واستردها منهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدًا، فقالوا لها: ما هذا البكاء؟! إنما يجب أن تفرحي؛ فإن الله قد وسع علينا. فقالت: يا أم، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا، ودبره بأحسن التدبير. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر حاتم أبيهم: فإنه لما خرج محرمًا، ولحق بالقوم توجع أمير الركب، فطلبوا له طبيبًا، فلم يجدوا، فقال: هل من عبد صالح؟ فدل على حاتم، فلما دخل عليه، وكلمه، دعا له، فعوفي الأمير من وقته، فأمر له بما يركب، وما يأكل، وما يشرب، فنام تلك الليلة مفكرًا في أمر عياله، فقيل له في منامه: يا حاتم، من أصلح معاملته معنا أصلحنا معاملتنا معه. ثم أخبر بما كان من أمر عياله، فأكثر الثناء على الله تعالى، فلما قضى حجه، ورجع تلقته أولاده، فعانق الصبية الصغيرة، وبكى، ثم قال: صغار قوم كبار قوم آخرين، إن الله لا ينظر إلى أكبركم، ولكن ينظر إلى أعرفكم به، فعليكم بمعرفته، والاتكال عليه؛ فإنه من توكل على الله فهو حسبه. انتهى.
وقد ذكر بعض الباحثين أن الأبشيهي كثيرًا ما ينقل في كتابه ما هبّ ودبّ من القصص، بل ومن الأحاديث التي لا تصح.
وأما ذكر بعض الفضلاء لها: فالعلماء يتساهلون في حكاية القصص في المواعظ من باب الاعتبار، والاستئناس، لا للاستشهاد، فلما كان فيها موعظة في التوكل ذكروها، كما يستأنس بذكر أخبار بني إسرائيل، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 136749.
والله أعلم.