الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فكل ذكرٍ أفضل في وقته الذي دل عليه الشرع، وأرشد إليه، ولم يرد ما يبين أفضلية أحدِ الذكرين على الآخر مطلقًا، ولو كان في الاقتصار على أحدهما مطلقًا خيرٌ للعبد لدل عليه الشارع؛ ولهذا اختلفت فضائل الأذكار باختلاف ألفاظها واختلاف أوقاتها.
لكن جاء في الحديث الذي رواه الترمذي في "السنن"، والبيهقي في "شعب الإيمان": أن أُبيَّ بن كعبٍ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني أُكثِر الصلاةَ عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت. قال: قلت: الربع؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قال: قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن تُكفى همك، ويغفر لك ذنبك. حسنه الترمذي. فكانت عاقبة جعل كل الدعاءِ صلاةً على النبي صلى الله عليه وسلم مغفرة الذنب، مع كفاية الهمِّ.
والصلاة هنا الدعاء، أي: أجعل لك دعائي كله؟ وليس الصلاة التي هي الأعمال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم كما قد يتوهمه البعض، بل تلك لها أعمالها الخاصة، وأركانها التي لا تصح دونها، ولا يصح جعلها صلاة عليه فقط صلى الله عليه وسلم؛ قال الطيبي في "شرح المشكاة": المعنى: كم أجعل لك من دعائي الذي أدعو به لنفسي؟ ولم يزل يعارضه ليوقِفَه على حدٍّ من ذلك. ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحد له في ذلك حدًّا؛ لئلا تلتبس الفضيلة بالفريضة أولًا، ثم لا يغلقَ عليه باب المزيد ثانيًا، فلم يزل يجعل الأمر فيه مراعيًا لقرينة الترغيب، والحث على المزيد، حتى قال: "إذن أجعل لك صلاتي كلها"، أي: أصلي عليك بدل ما أدعو به لنفسي، فقال: «إذن تُكفى همَّك» أي ما يهمك من أمر دينك، ودنياك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله تعالى، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والاشتغال بأداء حقه عن مقاصد نفسه، وإيثاره بالدعاء على نفسه، وما أعظمها من خلال جليلة الإخطار، وأعمال كريمة الآثار! وأرى هذا الحديث تابعًا في المعنى لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه -عز وجل-: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»]. اهـ.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة، كما جاء في الصحيحين. ورُويَ في غيرهما بلفظ: يا أيها الناس، استغفروا الله، وتوبوا إليه، فإني أستغفر وأتوب إليه في اليوم -أو كلَّ يوم- مائة مرة -أو أكثر من مرة-.
وقد شُرِعَ بين السجدتين قول: رب اغفر لي. ومن العلماء من يوجبه، ويُبطل الصلاة بتركه عمدًا، ولا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع، كما لا تشرع فيه قراءة القرآن، بينما شرعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، فيكون ما شرع من الاستغفار في الصلاة أكثر مما شرع من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولا يكون فعل أحدهما في موضع الآخر أفضل، بل ولا يجزئ عنه؛ ففعلُ كلِّ ذكرٍ في موضعه الذي ورد به الشرع أفضل.
وقد شرع الله تعالى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد سماع الأذان، وقبل سؤال الوسيلة، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة. ولا يكون الاستغفار في هذا الموضع أفضل.
وكذلك قد شُرع كثرة الصلاة عليه يومَ الجمعة صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، وأحمد، من حديث أوس بن أوس، أو أوس بن أبي أوس: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أَرِمْتَ -أي: بَلِيتَ-؟ فقال: «إن الله -عز وجل- حرم على الأرض أجساد الأنبياء. ورواه البيهقي عن أنس بلفظ: أكثروا الصلاة عليَّ يومَ الجمعة، وليلةَ الجمعة؛ فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: رَغِمَ أنفُ رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ. وقال: البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل عليّ. رواهما الترمذي، وغيره.
فهذا موضعٌ خاصٌّ تتأكد فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، دون الاشتغال بغيره من الأذكار.
وقد ذهب بعض أهل العلمِ إلى أن ذلك واجبٌ في هذه الحال، يأثم تاركه؛ قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وقد اختلف في وجوبها كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جعفر الطحاوي، وأبو عبد الله الحليمي: تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كُلَّما ذُكر اسمه، وقال غيرهما: إن ذلك مستحب، وليس بفرض. اهـ.
ومما جاء في فضل الاستغفار: ما رواه البخاري من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ومن قالها من النهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة».
وقد حض الله على كثرة الاستغفار وقتَ السَّحَر، فقال -جل شأنه-: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ {آل عمران:17}، وقال: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {الذاريات:18}. قال ابن كثير: دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار. اهـ.
وروى ابن جرير الطبري: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
ورُويَ أن ابن مسعود سُمِع يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي.
فيتبيَّن لك أن كلَّ ذكرٍ مطلوبٌ، وقد يُشرع في أوقاتٍ معينةٍ تكون وقتَ فضيلةٍ له، أو وقتَ موضع وجوب، كما في الصلاة، ولا يمكنُ القول بالأفضلية المطلقة لذكرٍ معيَّنٍ إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وراجع لزيادة الفائدة الفتوى رقم: 38997.
والله أعلم.