الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وقد تعبد الله البشرية بالعمل به والتحاكم إليه بعد نزوله في جميع الأزمنة والأمكنة.
ومن القواعد الفقهية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أي: أن كل أمر أو نهي صدر في أحد الصحابة، فإنه موجه إلى كافة الأمة، إلا أن يدل الدليل على الخصوص، أو على أنه كان مشروعًا في ذلك العهد ثم نسخ، وذلك باب واسع لا يمكن تفصيله في فتوى كهذه.
ومن الأمثلة العامة وسببها خاص: آية المواريث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ {النساء:11}، فقد نزلت في بنات سعد بن الربيع، وبقي حكمها عامًّا للأمة.
ومنها: قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا {النساء:58}.
ومنها: آية اللعان، وآية الرجم، وحديث الولد للفراش ...
قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (2/ 376) عند الكلام على آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {الأنفال:27}. قال -رحمه الله تعالى-: والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند جمهور من العلماء، والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار واللازمة والمتعدية. اهـ.
وقد تأتي الآية في حديث عن الأمم السابقة، كما في قصة يوسف، وبعض قصص بني إسرائيل، ولكن ذلك لا يمنع العمل بما تفيده الآية إن لم يثبت نسخ لها في شرعنا؛ قال الإمام الطبري -رحمه الله- (4/ 597) في الكلام على قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {المائدة:44}: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات فيهم نزلت، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرًا عنهم أولى.
قلت: ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به، بل ليُهتدى به، وليُعتبر به. والله ولي التوفيق. اهـ.
وقد ذكر العلامة الأمين الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 359): أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عما معناه. هل أن العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ فأجاب بما معناه: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة; فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فأنزلت عليه: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) [11 114]، قال الرجل: ألي هذه؟ قال: «لمن عمل بها من أمتي». اهـ. هذا لفظ البخاري في التفسير في «سورة هود»، وفي رواية في الصحيح، قال: «لجميع أمتي كلهم». اهـ.
فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ألي هذه؟ ومعنى ذلك: هل النص خاص بي لأني سبب وروده؟ أو هو على عموم لفظه؟ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لجميع أمتي» معناه: أن العبرة بعموم لفظ: «إن الحسنات يذهبن السيئات»، لا بخصوص السبب. والعلم عند الله تعالى... اهـ.
وقد جاء في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ {الأنفال:60} خطاب عام بإعداد ما يستطاع من القوة، وقد ذكر أهل العلم أن ذلك يشمل المستطاع من الرمي والخيل وغيرهما من أسباب القوة؛ فقد جاء في الموسوعة الفقهية: الأخذ بأسباب القوة فريضة على المسلمين على اختلاف صنوفها وألوانها, وأسبابها, مادية كانت أو معنوية, قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} والخطاب لكافة المسلمين; لأن المأمور به وظيفة كافتهم, وتشمل كل ما يطيقونه مما يفيد في الحرب من الوسائل ماديًّا كان؛ كالسلاح، والإنفاق، وتدريب المجاهدين في فنون الحرب, وإتقان استعمال أنواع السلاح المختلفة, لقوله: {ما استطعتم}، أو معنويًّا؛ كالتصافي, واتفاق الكلمة، والثقة بالله، وعدم خوض الحرب بغير إذن الإمام, والاختيار لإمارة الجيش من كان ثقة في دينه, والتوصية بتقوى الله, وأخذ البيعة عليهم بالثبات على الجهاد وعدم الفرار, وغير ذلك مما يؤدي إلى القوة البدنية والمعنوية.
فأخذ أسباب القوة بقسميها فرض على المسلمين, بالأمر القرآني: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مارسوا كل عمل مشروع متاح لهم في بيئتهم يدل على علو الهمة وكمال الرجولة, ويؤدي إلى قوة الجسم ودفع الكسل والميل إلى الدّعة. اهـ.
وقال الطرطوشي في سراج الملوك (ص: 173): واعلموا أن الناس قد وضعوا تدبير الحروب كتبًا، ورتبوا فيها ترتيبًا، ولا يسع سائر أهل الأقاليم، إن لكل أمة نوعًا من التدبير، وصنفًا من الحيلة، وضربًا من المكيدة، وجنسًا من اللقاء والكر والفر، وتعبية المواكب، وحمل بعضهم على بعض، ولكن نصف منها أشياء تجري مجرى المعاقد، ولا يكاد يختلف في أنها أزمة الحروب.
ونبدأ أولًا بما ذكره الله تعالى في القرآن: قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60). وقوله تعالى: {ما استطعتم} مشتمل على كل ما هو في مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة.
وفسر النبي -صلى الله عليه وسلم- القوة حين مر على أناس يرمون فقال: ألا إن القوة الرمي. وكان بعض أصحابه إذا أراد الغزو ولا يقص أظفاره، ويتركها عدة ويراها قوة.
فأول ذلك أن يقدم بين يدي اللقاء عملًا صالحًا من صدقة، وصيام، ورد مظلمة، وصلة رحم، ودعاء مخلص، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وأمثال ذلك.
فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأمر بذلك، ويقول: إنما تقاتلون بأعمالكم.
ويروى أن بريدًا ورد عليه بفتح المسلمين، فقال عمر: أي وقت لقيتم العدو؟ قال: غدوة. قال: ومتى انهزم؟ قال: عند الزوال. فقال عمر -رضي الله عنه-: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاوم الشرك الإيمان من غدوة إلى الزوال، لقد أحدثتم بعدي حدثًا أو أحدثت بعدكم حدثًا.
وأما قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {الحجرات:14}: فهي حكاية لواقعة، وفيها عبرة وعظة للأمة إلى يوم القيامة، ألّا يدعي إنسان لنفسه الإيمان، والإيمان لم يدخل قلبه بعد.
هذا؛ وننبه إلى ضرورة كتابة القرآن كتابة صحيحة، فقد اشتمل سؤالك على أخطاء عدة في كتابة الآيتين الكريمتين.
والله أعلم.