الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
وهذا يدل دلالة واضحة على ما ذكرته من أن ناسًا يعملون أعمالًا صالحة، ثم يختم لهم بشر، فتحبط أعمالهم، ويكونون من أهل الشقاوة ـ والعياذ بالله ـ وليس الله أضاع أجرهم حتى يكون هذا معارضًا لقوله: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا، بل هم الذين تسببوا في إحباط أعمالهم، وإضاعة أجور أنفسهم بما اقترفوه من الإثم، إذ عملوا بعمل أهل النار، فاستحقوا دخولها بعملهم، ولم يظلمهم الله تعالى شيئًا، فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ـ فهو لم يدخل النار إلا حين عمل بعمل أهلها، وما ربك بظلام للعبيد، على أنه قد وقع في بعض الروايات: ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، قال ابن رجب -رحمه الله-: وقوله: فيما يبدو للناس ـ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الْأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَعْمَلُ الرَّجُلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَفِي بَاطِنِهِ خَصْلَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْخَصْلَةُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: حَضَرْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَوْتِ يُلَقَّنُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ فِي آخِرِ مَا قَالَ: هُوَ كَافِرٌ بِمَا تَقُولُ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ، فَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: اتَّقُوا الذُّنُوبَ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُ. انتهى.
ثم إن هذا المعنى العظيم الذي نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم -في هذا الحديث، وفي أحاديث كثيرة تشبهه- يجعل القلب معلقًا دائمًا بالله تعالى، فلا يركن العبد إلى عمله، ولا يتكل على طاعة تقرب بها، بل يظل خائفًا راجيًا، راجيًا فضل ربه خائفًا غوائل نفسه الأمارة بالسوء، يخشى أن ينكص على عقبيه قبل موته، فيختم له بشر، وذلك أن أحدًا لا يدري ما الذي سبق به له القلم، قال ابن رجب -رحمه الله-: وفي الجملة فَالْخَوَاتِيمُ مِيرَاثُ السَّوَابِقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبُ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: مَاذَا سَبَقَ لَنَا.... وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُومُ طُولَ لَيْلِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ عَلِمْتَ سَاكِنَ الْجَنَّةِ مِنْ سَاكِنِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الدَّارَيْنِ مَنْزِلُ مَالِكٍ؟... وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ، وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ، وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ، وَيَخَافُ أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَيُخْرِجُهُ إِلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَسَائِسَ السُّوءِ الْخَفِيَّةِ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ـ فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ ـ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. انتهى.
فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يرزقنا حسن الخاتمة.
والله أعلم.