الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن معنى الرّان في قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {المطففين:14}، هو: الذنوب التي غطت على أفئدة أهل الإعراض فحجبتهم عن إبصار الحق، والإيمان به.
قال ابن عطية: وقوله تعالى: {كَلَّا} زجر ورد لقولهم: {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان والعتو، قد {رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ}، أي: غطى عليها وغلب، فهم مع ذلك لا يبصرون رشدًا، ولا يخلص إلى قلوبهم خير، ويقال: رانت الخمر على عقل شاربها، وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، وقد روى ابن جرير، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طرق عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. وقال الترمذي: حسن صحيح. ولفظ النسائي: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، فيموت. وكذا قال مجاهد بن جبر، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم. اهـ. باختصار.
فليس الران هو الضيق والأحزان!
نعم من آثار اجتراح الذنوب والغفلة عن الله تسليط الهموم والأحزان ونحوها من الآلام النفسية على العبد؛ قال ابن القيم -في تعداد عقوبات الذنوب-:
ومنها: المعيشة الضَّنْك في الدنيا، وفي البرزخ، والعذاب في الآخرة. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 124]. وفُسّرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنّه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعمُّ منه، وإن كانت نكرةً في سياق الإثبات، فإنّ عمومها من حيث المعنى، فإنّه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعّم في الدنيا بأصناف النعيم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنّما يواريه عنه سكرُ الشهوات والعشق وحبّ الدنيا والرياسة، إن لم ينضمَّ إلى ذلك سكرُ الخمر! فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر، فإنّه يفيق صاحبه ويصحو، وسكرُ الهوى وحبّ الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا صار في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده. ولا تقرّ العين، ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حقّ، وكلّ معبود سواه باطل. فمن قرّت عينه بالله قرّت به كلُّ عين، ومن لم تقرّ عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمنِ به وعمل صالحًا، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]. فضَمِن لأهل الإيمانِ والعملِ الصالحِ الجزاءَ في الدنيا بالحياة الطيّبة وبالحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدارين .اهـ. من الجواب الكافي.
وفي عدة الصابرين له: فإن الرغبة في الدنيا تشتت القلب، وتبدد الشمل، وتطيل الهم والغم والحزن؛ فهي عذاب حاضر يؤدى إلى عذاب منتظر أشد منه، وتفوت على العبد من النعم أضعاف ما يروم تحصيله بالرغبة في الدنيا. قال الإمام أحمد: حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا يعنى بن مسلم عن إبراهيم يعنى بن ميسرة عن طاووس قال: قال رسول الله: "إن الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، وإن الرغبة في الدنيا تطيل الهم والحزن". وإنما تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين: إحداهما: الرغبة في الدنيا والحرص عليها. والثانية: التقصير في أعمال البر والطاعة. قال عبد الله بن أحمد: حدثني بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم عن بشر بن الحارث قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن ليث عن الحكم قال: قال رسول الله: "إذا قصر العبد بالعمل ابتلاه الله -عز وجل- بالهمّ". وكما أن الرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة فهي أصل معاصي القلب من التسخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر. اهـ.
وأما شرح طبيعة الران الذي وصف به القلب والروح بأمر محسوس -كتفسير الران بهرمونات وإفرازات أو نحو ذلك- فقول ظاهر البطلان، وهو من التهوك، والخوض الباطل.
والله أعلم.