الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فننبهك أولًا إلى أن الحديث عند الشيخين كليهما جاء من حديث عبد الله بن عمر، ولم يروه مسلم من حديث ابن مسعود كما ذكرت، وقد اختلفت الروايات في ذكر الصلاة التي أمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ بصلاتها في بني قريظة؛ فجاء في رواية مسلم بأنها الظهر، وجاء في رواية البخاري بأنها العصر، وقد جمع العلماء بين الاختلاف الوارد في الروايتين، فقال الإمام النووي في شرح مسلم: أَمَّا جَمْعهمْ بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ فِي كَوْنهَا الظُّهْر وَالْعَصْر، فَمَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْر كَانَ بَعْد دُخُول وَقْت الظُّهْر، وَقَدْ صَلَّى الظُّهْر بِالْمَدِينَةِ بَعْضهمْ دُون بَعْض، فَقِيلَ لِلَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا الظُّهْر: لَا تُصَلُّوا الظُّهْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة، وَلِلَّذِينَ صَلَّوْا بِالْمَدِينَةِ: لَا تُصَلُّوا الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ قِيلَ لِلْجَمِيعِ: وَلَا تُصَلُّوا الْعَصْر وَلَا الظُّهْر إِلَا فِي بَنِي قُرَيْظَة. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ قِيلَ لِلَّذِينَ ذَهَبُوا أَوَّلًا: لَا تُصَلُّوا الظُّهْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة، وَلِلَّذِينَ ذَهَبُوا بَعْدهمْ: لَا تُصَلُّوا الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة. وَاَللَّه أَعْلَم. اهـ.
وقال الحافظ في الفتح: وَقَدْ جَمَع بَعْض الْعُلَمَاء بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون بَعْضهمْ قَبْل الْأَمْر كَانَ صَلَّى الظُّهْر وَبَعْضهمْ لَمْ يُصَلِّهَا، فَقِيلَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الظُّهْر. وَلِمَنْ صَلَّاهَا: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر. وَجَمَعَ بَعْضهمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُون طَائِفَة مِنْهُمْ رَاحَتْ بَعْد طَائِفَة، فَقِيلَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى الظُّهْر، وَقِيلَ لِلطَّائِفَةِ الَّتِي بَعْدهَا الْعَصْر، وَكِلَاهُمَا جَمْع لَا بَأْس بِهِ، لَكِنْ يُبْعِدهُ اِتِّحَاد مَخْرَج الْحَدِيث؛ لِأَنَّهُ عِنْد الشَّيْخَيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِإِسْنَادٍ وَاحِد مِنْ مَبْدَئِهِ إِلَى مُنْتَهَاهُ ، فَيَبْعُد أَنْ يَكُون كُلّ مِنْ رِجَال إِسْنَاده قَدْ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَمَلَهُ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ بَعْض رُوَاته عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يُوجَد ذَلِكَ. ثُمَّ تَأَكَّد عِنْدِي أَنَّ الِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ الْمَذْكُور مِنْ حِفْظِ بَعْض رُوَاته، فَإِنَّ سِيَاق الْبُخَارِيّ وَحْدَه مُخَالِف لِسِيَاقِ كُلّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَسْمَاء وَعَنْ عَمّه جُوَيْرِيَة. اهـ.
ثم استظهر الحافظ أحد احتمالين، أولهما أن اختلاف اللفظ جاء من أحد الرواة حيث حدث به مرة الظهر ومرة العصر، وثانيهما أن البخاري حدث به من حفظه، فرواه بالمعنى بخلاف مسلم فإنه كان شديد المحافظة على الرواية باللفظ، قال الحافظ: فَاَلَّذِي يَظْهَر مِنْ تَغَايُر اللَّفْظَيْنِ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَسْمَاء شَيْخ الشَّيْخَيْنِ فِيهِ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبُخَارِيّ حَدَّثَ بِهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظ، وَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ الْبَاقِينَ حَدَّثَهُمْ بِهِ عَلَى اللَّفْظ الْأَخِير ...... أَوْ أَنَّ الْبُخَارِيّ كَتَبَهُ مِنْ حِفْظه وَلَمْ يُرَاعِ اللَّفْظ كَمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبه فِي تَجْوِيز ذَلِكَ، بِخِلَافِ مُسْلِم فَإِنَّهُ يُحَافِظ عَلَى اللَّفْظ كَثِيرًا ... وَهَذَا كُلّه مِنْ حَيْثُ حَدِيث اِبْن عُمَر، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حَدِيث غَيْره فَالِاحْتِمَالَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي كَوْنه قَالَ الظُّهْر لِطَائِفَةِ وَالْعَصْر لِطَائِفَةِ مُتَّجَه، فَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون رِوَايَة الظُّهْر هِيَ الَّتِي سَمِعَهَا اِبْن عُمَر، وَرِوَايَة الْعَصْر هِيَ الَّتِي سَمِعَهَا كَعْب بْن مَالِك وَعَائِشَة -رَضِيَ اللَّه عَنْهَا-. وَاَللَّه أَعْلَم. اهـ.
والله تعالى أعلم.