الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالنجاسة لا تبقى على حالها في المعدة يوما أو أكثر، بل أقل من ذلك بكثير، فخلال وقت يسير تختلط بفضلات المعدة وتستحيل إلى غيرها، وعلى أي حال فقد ذهب بعض العلماء إلى عدم صحة الصلاة إذا وجدت النجاسة في المعدة ما دام يقدر على تقيؤها، فإن عجز صحت صلاته، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 182891.
وهؤلاء يرون أن النجاسة إن تغيرت صفتها في المعدة، فالصلاة صحيحة، ففي حاشية الدسوقي: وقوله: مدة ما يرى بقاء النجاسة في بطنه أي مدة ما يرى بقاءها في بطنه بصفة النجاسة، فإذا كانت خمرا -مثلا- وجبت الإعادة مدة ما يرى بقاءها في جوفه خمرا، وأما بعد ذلك، فهي بمثابة العذرة، انظر طفى.. انتهى.
لكن أكثر العلماء على أن النجاسة التي في جوف المصلي معفو عنها، فلا تؤثر في صحة صلاته، قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح صحيح مسلم: لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة مَعفوّ عنه، لكونه في معدته. انتهى.
وقال في المجموع: فرع: إذا شرب خمرا أو غيرها من النجاسات قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في البويطي في باب صلاة الخوف، وإن أُكرِه على أكل محرم فعليه أن يتقايأه، هذا نصه في البويطي، وقال في الأم: ولو أسر رجل فحمل على شرب محرم أو أكل محرم وخاف إن لم يفعله، فعليه أن يتقايأه إن قدر عليه، وهذان النصان ظاهران أو صريحان في وجوب الاستقاءة لمن قدر عليها، وبهذا قال أكثر الأصحاب، وصححه صاحبا الشامل والمستظهري، وفيه وجه أنه لا يجب، بل يستحب، وصححه القاضي أبو الطيب، ولا فرق بين المعذور في الشرب وغيره، كما نص عليه. انتهى.
وقال الشربيني في مغني المحتاج: ولو غسل شارب الخمر أو نجس آخر فمه وصلى، صحت صلاته، ووجب عليه أن يتقايأه إن قدر عليه بلا ضرر يبيح التيمم. انتهى.
فلم يشترط أن يمر زمن تزول معه النجاسة، بل أشار إلى أنه لو عجز عن تقيئه صحت صلاته، وكذلك الحكم إن لم يتقيأه ـ وهو قادر ـ لوصوله إلى معدن النجاسة، فيعفى عنه، جاء في حاشية الجمل: لَوْ وَصَلَ جَوْفَهُ مُحَرَّمٌ نَجِسٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَقَايَأَهُ، وَإِنْ كَانَ وُصُولُهُ إلَيْهِ بِإِكْرَاهٍ، مَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ وَصْلِ الْعَظْمِ. انتهى.
جاء في أسنى المطالب في شرح روض الطالب: فَرْعٌ: لَوْ جُبِّرَ مَنْ انْكَسَرَ عَظْمُهُ وَخَافَ الضَّرَرَ بِتَرْكِ الْجَبْرِ عَظْمُهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ لَا يُصْلَح لِلْجَبْرِ غَيْره مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ جَازَ، فَلَا تَبْطُلُ بِهِ صَلَاتُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَزْعُهُ، قَالَ السُّبْكِيُّ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِمَا: إلَّا إذَا لَمْ يَخَفْ مِنْ النَّزْعِ ضَرَرًا، وَإِنْ جَبَّرَهُ بِهِ، وَثَمَّ طَاهِرٌ يَصْلُحُ لِلْجَبْرِ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ حُرِّمَ، لِتَعَدِّيهِ، وَأُجْبِرَ عَلَى نَزْعِهِ إنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ وَلَوْ اكْتَسَى لَحْمًا، لِحَمْلِهِ نَجَاسَةً تَعَدَّى بِحَمْلِهَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إزَالَتِهَا كَوَصْلِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ، فَإِنْ امْتَنَعَ لَزِمَ الْحَاكِمَ نَزْعُهُ، لِأَنَّهُ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِأَلَمِهِ فِي الْحَالِ إذَا لَمْ يُخَفْ مِنْهُ فِي الْمَآلِ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ مَعَهُ، لِحَمْلِهِ نَجَاسَةً فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا لَا ضَرُورَةَ إلَى تَبْقِيَتِهَا، بِخِلَافِ شَارِبِ الْخَمْرِ لِحُصُولِهِ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ. انتهى.
ونخشى أن يكون سؤالك ناشئا عن وسوسة، فإن كان، فلا تلتفتي لذلك، ويسعك العمل بقول الجمهور من جواز الصلاة على هذه الحال، فللموسوس أن يأخذ بأخف الأقوال حتى يعافيه الله تعالى، كما بيّنّا في الفتوى رقم: 181305.
والله أعلم.