الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن الجلي أن الوسوسة في شأن الكفر قد بلغت منك مبلغا عظيما، وسؤالك هذا ثمرة نكدة من ثمار الوسوسة، فنسأل الله لك العافية منها، وإذا أردت أن يطمئن قلبك وتسكن نفسك، فعليك بالإعراض عن الوساوس جملة، وعدم الالتفات إليها، والكف عن الاسترسال معها، وهذا هو الدواء الأوحد لما ابتليت به من داء الوسوسة .
ومهما ذكر لك من بيان وتفصيل فلن يفيدك كثيرا إن مضيت في مجاراة الوساوس، والركون إليها.
وهذا الشعور والوسواس الذي ينتابك لا يوجب الخروج من الملة أبدا.
وأما قولك: (فأصبحت أدعو الله بقول: يا رب لا تعلق قلبي إلا بك) وعندما أدعو بهذا الدعاء أخاف أن يصبح قلبي خالياً من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبحت أقول (يا رب لا تعلق قلبي إلا بك ثم برسولك ) فهو عجب عجاب، فلا يقول عاقل أن سؤال الله التعلق به وحده يقتضي عدم محبة رسوله صلى الله عليه وسلم!، فإن من محبة الله محبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمشروع أن يدعو المسلم ربه جل وعلا أن يرزقه محبته سبحانه، ومحبة من يحبه الله، من الرسل والملائكة والصالحين، ففي سنن الترمذي في حديث اختصام الملأ الأعلى أن الني صلى الله عليه وسلم دعا بقوله: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها حق فادرسوها ثم تعلموها». قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» سألت محمد بن إسماعيل ـ البخاري ـ عن هذا الحديث، فقال: «هذا حديث حسن صحيح».
وقال ابن القيم: ومن أفضل ما سئل الله عز وجل حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقرب إلى حبه، ومن أجمع ذلك أن يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ومالي ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين، واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم أحي قلبي بحبك واجعلني لك كما تحب، اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله وأرضيك بجهدي كله، اللهم اجعل حبي كله لك، وسعيي كله في مرضاتك، وهذا الدعاء هو فسطاط خيمة الإسلام الذي قيامها به، وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائمون بحقيقة ذلك هم الذين هم بشهادتهم قائمون. اهـ. من روضة المحبين .
وأما قولك: (المساواه بين حب الله وغيره يعتبر شركا مخرجا من الدين) فليس على إطلاقه، فتقديم محبة غير الله على محبة الله ـ فضلا عن المساواة ـ ليس كفرا في كل حال، قال ابن تيمية: فإن المسلم المستحق للثواب لا بد أن يكون مصدقاً، وإلا كان منافقاً، لكن ليس كل من صدق قام بقلبه من الأحوال الإيمانية الواجبة مثل كمال محبة الله ورسوله، ومثل خشية الله والإخلاص له في الأعمال والتوكل عليه، بل يكون الرجل مصدقاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك يرائي بأعماله، ويكون أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، وقد خوطب بهذا المؤمنون في آخر الأمر في سورة براءة فقيل لهم: قل إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة: 24}، ومعلوم أن كثيراً من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة، وقد ثبت أنه لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإنما المؤمن من لم يَرْتَبْ، وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله، فمن لم تقم بقلبه الأحوال الواجبة في الإيمان، فهو الذي نفى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان وإن كان معه التصديق، والتصديق من الإيمان، ولا بد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وخشية الله، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيماناً البتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس. اهـ.
والله أعلم.