الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمن كان عليه دين في ذمته، وجب عليه رده إلى من له الدين عليه، ولو كان ماله حرامًا من جهة كسبه، كمن يتعامل بالربا، ونحو ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع اليهود في البيع والشراء، والرهن، مع أنهم كانوا يتعاملون فيما بينهم بالربا.
ويدل لذلك أيضًا ما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، حيث قال -رحمه الله-: وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْفَعَ لَهُ، فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نخله بِالَّذِي لَهُ، فَأبى. انتهى.
ويستثنى من رد الدين إلى من له الدين، ما إذا كان الدين مالًا مسروقًا مثلًا، فهذا المال المسروق المعين يرده إلى صاحبه المسروق منه، ولا يعتبر السارق دائنًا أصلًا، قال النووي -رحمه الله- في المجموع: إذَا اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا، فَبَاعَهُ لِآخَرَ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ يَبِيعُ الْمَغْصُوبَ. فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِ الثَّانِي، وَعَلِمَ الْحَالَ لَزِمَهُ رَدُّهُ إلَى الْمَالِكِ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ. انتهى.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حكم التعامل مع من ماله حرام بنوعيه من جهة الكسب، ومن جهة الغصب، والسرقة، ونحوهما، حيث قال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْمَقْبُوضَةِ بِعُقُودٍ لَا تُبَاحُ بِالْقَبْضِ، إنْ عَرَفَهُ الْمُسْلِمُ اجْتَنَبَهُ.
فَمَنْ عَلِمْت أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا، أَوْ خَانَهُ فِي أَمَانَتِهِ، أَوْ غَصَبَهُ فَأَخَذَهُ مِنْ الْمَغْصُوبِ قَهْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ، لَمْ يَجُزْ لِي أَنْ آخُذَهُ مِنْهُ؛ لَا بِطَرِيقِ الْهِبَةِ، وَلَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا وَفَاءً عَنْ أُجْرَةٍ، وَلَا ثَمَنَ مَبِيعٍ، وَلَا وَفَاءً عَنْ قَرْضٍ؛ فَإِنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِ ذَلِكَ الْمَظْلُومِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ قَبَضَهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، جَازَ لِي أَنْ أَسْتَوْفِيَهُ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْأُجْرَةِ، وَالْقَرْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدُّيُونِ.
وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ، فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا بِيَدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكَهُ، أَوْ يَكُونَ وَلِيًّا عَلَيْهِ؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ. وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُسْلِمُ، أَوْ الذِّمِّيُّ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، أَوْ الْوِلَايَةِ جَازَ تَصَرُّفُهُ.
فَإِذَا لَمْ أَعْلَمْ حَالَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ، بَنَيْت الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ. ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ غَصَبَهُ هُوَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَا، كُنْت جَاهِلًا بِذَلِكَ، وَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ، فَلَيْسَ أَخْذِي لِثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَأُجْرَةِ الْعَمَلِ، وَبَدَلِ الْقَرْضِ بِدُونِ أَخْذِي اللُّقَطَةَ؛ فَإِنَّ اللُّقَطَةَ أَخَذْتهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ لَمْ أَعْلَمْ مَالِكِهَا، وَهَذَا الْمَالُ لَا أَعْلَمُ لَهُ مَالِكًا غَيْرَ هَذَا، وَقَدْ أَخَذْته عِوَضًا عَنْ حَقِّي فَكَيْفَ يَحْرُمُ هَذَا عَلَيَّ؟ لَكِنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا -بِأَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا- تُرِكَ مُعَامَلَتُهُ وَرَعًا. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامًا، فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْمَسْتُورُ، فَلَا شُبْهَةَ فِي مُعَامَلَتِهِ أَصْلًا، وَمَنْ تَرَكَ مُعَامَلَتَهُ وَرَعًا، كَانَ قَدْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. انتهى. وللفائدة يرجى مراجعة هاتين الفتويين: 131041، 70068.
والله أعلم.