الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشأم خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته.
وهذا الحديث هو في ذكر الملحمة التي تكون بين المسلمين والروم في آخر الزمان، وهي من أشراط الساعة، وقد سبق تفصيل الكلام عن هذه الملحمة في فتاوى عدة منها الفتويان رقم: 321898، ورقم: 317485.
وأما عن تفصيل معاني ألفاظ هذا الحديث: فإن من أوسع من تولى بيان ذلك القاري في كتابة: مرقاة المفاتيح، فننقل كلامه بشيء من الاختصار، قال: بالأعماق، بفتح الهمزة، قال التوربشتي رحمه الله: العمق ما بعُد من أطراف المفاوز، وليس الأعماق هاهنا بجمع، وإنما هو اسم موضع بعينه من أطراف المدينة ـ أو بدابق: بفتح الموحدة وقد تكسر ولا يصرف، وقد يصرف، وفي المفاتيح: هما موضعان، أو شك من الراوي، وهو موضع معروف من عمل حلب، ومرج دابق مشهور: فيخرج إليهم جيش من المدينة ـ قال ابن الملك، قيل: المراد بها حلب، والأعماق ودابق موضعان بقربه، وقيل: المراد بها دمشق، وقال في الأزهار: وأما ما قيل من أن المراد بها مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فضعيف، لأن المراد بالجيش الخارج إلى الروم جيش المهدي بدليل آخر الحديث، ولأن المدينة المنورة تكون خرابا في ذلك الوقت: من خيار أهل الأرض ـ بيان للجيش يومئذ، احتراز من زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم: فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سَبوا منا ـ على بناء الفاعل: نقتلهم ـ يريدون بذلك مخاتلة المؤمنين ومخادعة بعضهم عن بعض ويبغون به تفريق كلمتهم، والمرادون بذلك هم الذين غزوا بلادهم، فسبوا ذريتهم، كذا ذكره التوربشتي ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الموافق للنسخ والأصول، قال ابن الملك: وروي سُبُوا ببناء المجهول، قال القاضي: ببناء المعلوم هو الصواب، وقال النووي رحمه الله: كلاهما صواب، لأن عساكر الإسلام في بلاد الشام ومصر كانوا مسبيين، ثم هم اليوم بحمد الله يسبون الكفار: فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم ـ أي: المسلمون الكفرة: فينهزم ثلث ـ أي: من المسلمين: لا يتوب الله عليهم أبدا ـ كناية عن موتهم على الكفر، وتعذيبهم على التأبيد: ويفتتح الثلث ـ أي: الباقي من المسلمين: لا يفتنون ـ أي: لا يبتلون ببلية، أو لا يمتحنون بمقاتلة، أو لا يعذبون: أبدا ـ ففيه إشارة إلى حسن خاتمتهم: فيفتتحون ـ والمعنى: فيأخذون من أيدي الكفار: قسطنطينية ـ وهي بضم القاف وسكون السين وضم الطاء الأولى وكسر الثانية، وبعدها ياء ساكنة، ثم نون، هي مدينة مشهورة أعظم مدائن الروم: فبينما هم ـ أي: المسلمون: يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون ـ أراد الشجر المعروف، والجملة حال دال على كمال الأمن، إذ صاح فيهم الشيطان ـ أي: نادى بصوت رفيع: إن المسيح ـ المراد بالمسيح هاهنا الدجال: قد خلفكم ـ بتخفيف اللام، أي: قام مقامكم: في أهليكم ـ أي: في ذراريكم كما في رواية: فيخرجون ـ أي: جيش المدينة من قسطنطينية: وذلك ـ أي: القول من الشيطان: باطل ـ أي: كذب وزور: فإذا جاءوا ـ أي: المسلمون: الشام ـ الظاهر أن المراد به القدس منه لما في بعض الروايات تصريح بذلك: خرج، فبينما هم يعدون ـ بضم فكسر أي: يستعدون ويتهيأون: للقتال ـ فقوله: يسوون الصفوف ـ بدل منه: إذ أقيمت الصلاة ـ وفي نسخة صحيحة: إذا ـ بالألف، أي: وقت إقامة المؤذن للصلاة: فينزل عيسى ابن مريم ـ أي: من السماء على منارة مسجد دمشق فيأتي القدس: فأمهم ـ عدل إلى الماضي تحقيقا للوقوع، أي: أم عيسى المسلمين في الصلاة ومن جملتهم المهدي، وفي رواية قدم المهدي معللا بأن الصلاة إنما أقيمت لك، وإشعارا بالمتابعة وأنه غير متبوع استقلالا، بل هو مقرِّر ومؤيِّد، ثم بعد ذلك يؤم بهم على الدوام، فقوله: فأمهم فيه تغليب أو تركب مجازا أي: أمر إمامهم بالإمامة ويكون الدجال حينئذ محاصرا للمسلمين: فإذا رآه ـ أي: رأى عيسى: عدو الله ـ بالرفع أي: الدجال: ذاب ـ أي: شرع في الذوبان: كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه ـ أي: لو ترك عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ الدجال ولم يقتله: لانذاب حتى يهلك ـ أي: بنفسه بالكلية: ولكن يقتله الله بيده ـ أي: بيد عيسى عليه الصلاة والسلام، فيريهم ـ أي: عيسى عليه الصلاة والسلام، أو الله تعالى، المسلمين، أو الكافرين، أو جميعهم: دمه ـ أي: دم الدجال: في حربته ـ أي: في حربة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي رمح صغير. اهـ.
وأما ما يتعلق بما يجري في سوريا الآن هل هو من علامات قيام الساعة؟ فليس لدينا علم نجزم به في هذا الأمر.
والله أعلم.