الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي يجب على عامة المسلمين أن يعقدوا عليه قلوبهم في باب الاعتقاد هو الإيمان المجمل، فلا يجب عليهم لتحقيق الإيمان إدراك التفاصيل والمسائل الدقيقة في أسماء الله تعالى وصفاته، ولا في غيرها من أبواب الاعتقاد، ولا يخاطبون بها، وإنما يؤمرون بالجمل الثابتة من الكتاب والسنة والإجماع، دون الخوض في التفاصيل والمسائل الدقيقة المشُكِلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفُرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله. اهـ.
وتحقيق الإيمان المجمل في باب الأسماء والصفات يكون بأن يعتقد العبد أن لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه سبحانه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، فيُثبت العبد لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفي عنه ما نفاه الله تعالى عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسكت عما سكت عنه الشرع، على قاعدة أهل السنة في ذلك: إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وأما التفاصيل التي وراء ذلك فلا يجب العلم بها، كما تقرر آنفًا.
وأما ما نسبتَه لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ من أنه سأل اللهَ أن يجعل إيمانه كإيمان العجائز، فلا أصل له فيما نعلم، وإنما روي معنى ذلك عن الإمام الجويني ـ رحمه الله تعالى ـ ونقله عنه الإمام الذهبي في كتابه: سير أعلام النبلاء، حيث قال: قال أَبو الفَتْحِ الطّبرِيُّ الفَقِيْه: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي المَعَالِي فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: اشَهِدُوا عَليَّ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ تُخَالف السُّنَّة، وَأَنِّي أَمُوْتُ عَلَى مَا يَموتُ عَلَيْهِ عجَائِز نَيْسَابُوْر. اهـ.
ومراد الإمام الجويني واضح، فهو يريد الإيمان الذي دليله الفطرة، ولم يشوَّش بالقواعد الفلسفية والمقدمات الكلامية هذا، وتعمُّق غير المختصين في دراسة العلوم الشرعية لا ينبغي أن يعتبر مضيعة للوقت، بل هو مندوب إليه ومستحب، وطلب العلم عبادة على كل حال، ومن تعلَّم المفروض منه، الذي يجب عليه تعلمه، فإن تعلُّم القدر الزائد على ذلك يكون مستحبًا، وهو عبادة من أفضل العبادات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل العلم خير من فضل العبادة. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
وقال الحافظ المناوي في شرح هذا الحديث من كتابه فيض القدير: أي نفل العلم أفضل من نفل العمل، كما أن فرض العلم أفضل من فرض العمل، وفضل العلم ما زاد على المفترض. اهـ.
وانظر بيان العلم الواجب الذي يجب على كل قادر تعلُّمه في الفتوى رقم: 56544.
وأما ادِّعاء أن السلفيين يُكَفِّر بعضهم بعضًا: فغير صحيح مطلقًا، إلا إن كنت تعني الجماعات الإسلامية الغالية، فهؤلاء عندهم جملة من البدع ويتوسعون في تكفير المخالف، ويلزمونه بما يكفِّره، وهؤلاء لا يمثلون المنهج السلفي الحق، بل لا ينبغي اعتبارهم سلفيين أصلا، فإن منهج السلف الصالح لا ينتج هذه الأفكار، فمن خصائص منهج السلف: درء الكفر بأدنى شبهة، وإعذار المخالف، وحمل المتشابه من كلامه على المحكم منه، وبالجملة، فإن السلفيين ـ أهل السنة والجماعة ـ هم أرحم الناس بالناس، والولاء القلبي لغلاة التكفيريين يعتبر رضا بفعلهم، فيكون الراضي والفاعل في الإثم سواء، إلا أن يكون الشخص الموالي لهم بقلبه جاهلا بانحرافهم ومخالفتهم للمنهج الحق منهج أهل السنة والجماعة فيمكن أن يعذر بذلك، قفد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ، كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا ـ وَقَالَ مَرَّةً: أَنْكَرَهَا ـ كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا، كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
وعلى العلماء والدعاة تبصير العامة وبيان المنهج الحق لهم، وكشف عوار منهج الضلال.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ. متفق عليه.
فمعناه: أنهما يستحقان دخول النار، وإذا دخلاها فإنهما يخرجان منها، فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن أهل العصاة من الموحدين إذا ماتوا تحت مشيئة الله: إن شاء عذبهم, وإن شاء غفر لهم, مستدلين بنص قطعي الثبوت والدلالة في ذلك, وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ {النساء: 48}.
فهذا نص قاطع في التفريق بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر, ويعتقدون أنه إن عذبهم في النار فمآلهم إلى الخروج منها، للأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار، ومنها حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني آت من ربي فبشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. متفق عليه.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخلُ أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ, ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان... الحديث متفق عليه.
وانظر الفتوى رقم: 5087.
والحديث ليس خاصا بزمن الهرج، بل هو عام في كل مسلمين يقتتلان بغير حق في أيام الهرج وغيرها.
هذا، وإن الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، هم أهل السنة والجماعة، الموافقون للسلف الصالح من هذه الأمة، وهم الأولى بموافقة الحق والصواب، وانظر حقيقتهم في الفتوى رقم: 60400.
وعلى المسلم الناصح لنفسه الساعي في نجاتها في الآخرة أن يجتهد في تحققه بمنهج أهل السنة والجماعة، وانظر الفتويين رقم: 56776، ورقم: 2496.
هذا، والذي نعتقده ـ والعلم عند الله تعالى ـ أننا لسنا في الزمان الذي لا ينجو فيه إلا من اعتزل الناس، ففي الأمة خير كثير، رغم كثرة الفساد، والواجب على أهل الخير نشر الخير وتكثيره، ومدافعة الشر وتقليله بقدر المستطاع، وانظر الفتويين رقم: 158317، ورقم: 46158.
والله أعلم.