الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن التخيير في هذه الحالة هو المفتى به عندنا، وهو الأصح عند الشافعية، وهذا هو الجاري مع القواعد الفقهية، فإن الأصل عدم كليهما: المني والمذي، فلما تردد الأمر بين الاثنين دون غيرهما، وتُيُقّن عدم خروج هذا البلل عن أحدهما.. لزم الخروج من أحدهما بيقين، مع كون الأصل في الآخر العدم أيضاً، لعدم تعيُّنِه بيقين، أما إذا احتمل أن يكون هذا البلل لا منياً ولا مذياً، كأن احتمل أن يكون أحد ثلاثة أشياء: إما منياً، وإما مذياً، وإما عصيراً، ولم يستطع تبين حقيقته، فإنه لا يجب عليه لا الغُسل ـ بالضم ـ ولا الغَسل بالفتح، لأن الأصل الطهارة، فإذا لم يحتمل كونه شيئاً ثالثاً غير المني والمذي، فإنه متى ما اجتهد المكلف في تعيين أحدهما بالأَمارات، فلم يصل إلى نتيجة، فإنه يتخيَّر بينهما، فإن جعله مذياً.. فالأصل أنه لا غُسلَ عليه، لأنه تيقن طهارته من الحدث الأكبر وشكَّ في حصوله، فيغسل الذكر والثياب من المذي النجس، ويتوضأ ويصلي، كما لو شكَّ في حصول الجنابة ولم يجد بللها، فإنه يصلي بناءً على الأصل، وهو تيقن الطهارة من الحدث الأكبر قبل ذلك، وعدم الجنابة، وأما إن جعله منياً، اغتسل للجنابة ولم يجب عليه غسل ثيابه، لأن المني طاهر؛ كما لو شكَّ في البلل الذي على ثوبه هل هو مذي أم عصير؟ والأصل طهارة ثوبه من الأنجاس، فلا يجب عليه غَسله من النجاسة حينئذ، وذلك كله لأنه لما تُيُقّن أن حقيقة هذا البلل ليست خارجةً عنهما ـ أي المني والمذي ـ كان متلبساً بأحدهما يقيناً، فلزم أن يخرج من أحدهما بيقين، فإذا خرج من أحدهما بيقين.. انعدم تيقنه أنه متلبسٌ بأحدهما؛ لاحتمال أنه أصاب في اختياره، فحينئذٍ يبقى الحكم في حقه أن الأصل انعدام الآخر وبراءة ذمته منه، وهو المتيقّن قبل هذا التردد، فلا يُزال اليقين بالشك، كما لو لم يتردد بينهما ابتداءً، جاء في العزيز شرح الوجيز للإمام الرافعي الشافعي المتوفى سنة 623هـ: الأصح: أنه يتخير بين أن يغتسل، أخذاً بأنه مني، أو يتوضأ، أخذاً بأنه مَذيٌ, لأن كل واحد منهما محتمل، فإذا أتى بموجب أحدهما وجب أن تصح صلاته، لأن لزوم الآخر مشكوك فيه، والأصل العدم. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي: لو شك في شيء أمني هو أم مذي؟ تخير ولو بالتشهي، فإن شاء جعله منياً واغتسل، أو مذياً وغسله وتوضأ، لأنه إذا أتى بأحدهما صار شاكاً في الآخر، ولا إيجاب مع الشك، وإنما لزم من نسي صلاة من صلاتين فعلهما لتيقن لزومهما له، فلا يبرأ منهما إلا بيقين. اهـ.
ومثله قول الشربيني في الإقناع: لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما برئ منه يقينًا، والأصل براءته من الآخر ولا معارض له؛ بخلاف من نسي صلاة من صلاتين حيث يلزمه فعلهما لاشتغال ذمته بهما جميعاً، والأصل بقاء كل منهما، وإذا اختار أحدَهما وفعله اعتُدَّ به، فإن لم يفعله كان له الرجوع عنه وفعل الآخر. اهـ.
وعلى هذا جرت قواعد الشريعة في أحكام الطهارة وغيرها، من أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأن اليقين لا يزول بالشك، كما لو تيَقَّن الوضوء ثم شك هل أحدث بعد هذا الوضوء أم لا؟ فإنه يصلي وتبرأ ذمته بتلك الصلاة؛ إلا إن تيقَّن بعد ذلك بنسبة مائة بالمائة ـ100% ـ أنه كان محدثاً، فإنه يعيد، أما إن غلب ذلك على ظنه ولو بنسبة تسعة وتسعين من المائة ـ 99% ـ فإنه لا إعادة عليه، لأن الواحد من المائة ـ1% ـ يُبقي الحكم لليقين الأول ـ وهو البراءة من موجب تلك الطهارة ـ وكذا إذا شك في النجاسة أو في حصول الجنابة وصلَّى، وكذا إن صلى ثم أحس في صلاته بخروج شيء منه ولم يتيقنه، فإنه يمضي في صلاته ولا يقطعها، وذلك كما في الحديث: أنه شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلُ الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: لا ينفتل ـ أو لا ينصرف ـ حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. رواه البخاري في باب: من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ـ ورواه مسلم، وبوَّب عليه النووي: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك.
أما المني الموجب للغسل، فالمفتى به عندنا: أنه الذي يخرج دَفِقاً بلذة، فإن لم يخرج دفقاً، فلا غسل، لحديث: إِذَا حذَفْتَ فَاغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حاذِفًا فَلَا تَغْتَسِلْ. رواه أحمد، وقال شعيب الأرناؤوط: حسن لغيره.
وإن خرج دَفِقاً من غير لذة، كأن خرج لبرد أو مرض.. فلا غُسل أيضاً، كما هو المفتى به عندنا.
وانظر الفتاوى التالية أرقمها: 142433، 127275، 292549 .
والله أعلم.