الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما من حيث الصحة والإجزاء فذلك مجزئ، يحصل به أصل الاستسقاء.
وأما من حيث السُّنية، فالسُّنة جلوس المأمومين، وقيام الإمام، وليس قيامهم معه للدعاء من السنة.
أما الإسرار والجهر، ففيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يطلق الجهر ويقتصر عليه، كالمالكية، ومنهم من يطلق السرَّ والجهرَ دون تفصيل، كالحنفية، ومنهم من يستحب السر في عمومه، والجهر في بعضه، كل ذلك والإمام مستقبل القبلة، كالحنابلة، ومنهم من يجعل الجهر حين استقبال الناس، والسرَّ حين استقبال القبلة، كالشافعية.
ومتى جهر الإمام بالدعاء، أمَّنوا على دعائه، ومتى أسرَّ به، دعَوا الله في سرهم.
وقد روى البخاري في صحيحه: باب: رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء. وفي حديث أنس بن مالك المشهور: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون. وهذا ظاهره أنهم يُسرون، وفي رواية له: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا. وهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر، فسمعوه.
قال ابن حجر في فتح الباري: واستُدِل به على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء، قاله ابن بطال، وتُعُقِّبَ بما سيأتي في رواية يحيى بن سعيد: ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون. اهـ.
ونحن نسوق لك بعض كلام أهل العلم من المذاهب الأربعة، فيما سألت عنه.
قال ابن عابدين الحنفي: وذلك أن يدعو الإمام قائمًا مستقبل القبلة، رافعًا يديه، والناس قعودٌ مستقبلين القبلة، يؤمّنون على دعائه، بـ"اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا، مريئًا، مريعًا، غدقًا، مجللًا، سحًّا، طبقًا، دائمًا"، وما أشبهه، سرًّا وجهرًا. اهـ.
وقال الخرشي المالكي في شرح مختصر خليل: وهم جلوس والإمام قائمٌ، ثم يدعو كذلك، وهو قائم مستقبل القبلة جهرًا... ويستحب لمن قرب منه أن يؤمّن على دعائه. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في تحفة المحتاج: (ويستقبل القبلة بعد صدر الخطبة الثانية) أي نحو ثلثها إلى فراغ الدعاء، ثم يستقبل الناس، ويكمل الخطبة بالحث على الطاعة، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبالدعاء للمؤمنين، والمؤمنات، ويقرأ آية أو آيتين، ثم يقول: أستغفر الله لي ولكم (ويبالغ في الدعاء) حينئذ (سرًّا) ويُسِرُّون حينئذ، (وجهرًا) ويؤمِّنون حينئذ، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}. اهـ.
وذكر الماوردي التفصيل في ذلك، ووجَّهه، قال: ويجهر في استقبال الناس؛ لأنه خاطب، ويُسِرُّ في استدبارهم؛ لأنه داعٍ، وقد قال الله تعالى في قصة نوح على نبينا وعليه السلام: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}، فكان الجمع بين الجهر والإسرار أولى. اهـ.
ونحوَه قال النووي في المجموع.
وقال ابن قدامة الحنبلي: ويستحب أن يدعو سرًّا حال استقبال القبلة، فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، فقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ذنوبنا، وإجابتنا في سقيانا، وسعة أرزاقنا. ثم يدعو بما شاء من أمر دين ودنيا. وإنما يستحب الإسرار؛ ليكون أقرب من الإخلاص، وأبلغ في الخشوع والخضوع والتضرع، وأسرع في الإجابة، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، واستحب الجهر ببعضه؛ ليسمع الناس، فيؤمنون على دعائه. اهـ.
والله أعلم.