الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن حب الله لعباده يتفاوت، فحبه لصفوته من خلقه، وخيرته منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم من حبه لغيره من الخلق، والخليلان محمد وإبراهيم عليهما السلام، قد خصهما الله بمزيد المحبة، فاتخذهما خليلين، وهذه الرتبة الكاملة في المحبة ليست لغيرهما، وحب الله لأنبيائه ورسله أعظم من حبه لسائر الصالحين، وكلما كمل صلاح العبد، وعظمت تقواه، وزاد قربه من ربه، واجتهاده في مرضاته، كلما زاد حب الله تعالى له، وهذا بين واضح، والحمد لله.
وأما سؤالك الثاني: فإننا لم نقف على من تعرض للمفاضلة بين المنزلتين من أهل السلوك، على أن هناك تنبيها مهما أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله- في ترتيب منازل السلوك إلى الله تعالى، فقال: ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام، وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها، تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية، المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها، لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها. فهذا يذكر عدداً من المنازل، والمقامات، وترتيباً. وهذا يذكر عدداً آخر، وترتيباً. ويقول هذا: إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا، حتى يحصل له كذا، وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا، ويقول هذا: عدد المنازل مائة، ويقول الآخر عددها أكثر، وأقل. ثم هذا يقسم المنازل أقساماً، يجعلها الآخر كلها قسماً. ويذكر هذا أسماء وأحوالاً، لا يذكرها الآخر. وغاية الواحد من هؤلاء، أن يكون ما ذكره وَصْفُ حاله، وحال أمثاله وسلوكهم، وترتيب منازلهم، فإذا كان ما قالوه حقاً، فغايته أن يكون وصفَ سلوك طائفة معينة. أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب، وهذه الانتقالات، فهذا باطل. انتهى.
وليعلم أيضا أن جميع هذه المنازل، لا بد أن تصحب السائر في طريقه كله، فليس معنى كون واحدة منها أعلى من الأخرى، أنه يفارق المفضولة إلى تلك الفاضلة، فيتخلى عنها بمرة.
وإلى هذا نبه ابن القيم -رحمه الله- فقال: واعلم أن ترتيب هذه المقامات، ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه، وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي، هذا محال، ألا ترى أن (اليقظة) معه في كل مقام لا تفارقه، وكذلك (البصيرة) و (الإرادة) و (العزم)، وكذلك (التوبة) فإنها كما أنها من أول المقامات، فهي آخرها أيضا، بل هي في كل مقام مستصحبة؛ ولهذا جعلها الله تعالى آخر مقامات خاصته، فقال تعالى في غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات التي قطعوا فيها الأودية، والبدايات، والأحوال، والنهايات: (لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [التوبة: 117] فجعل التوبة أول أمرهم، وآخره. وقال في سورة (أَجَل رسول الله) التي هي آخر سورة أنزلت: (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا) [سورة النصر]. وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ما صلى صلاة بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة، إلا قال في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن.
فالتوبة هي نهاية كل سالك، وكل ولي لله، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته، وما ينبغي له، قال تعالى: (إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [الأحزاب 72، 73]. فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة.
وكذلك (الصبر) فإنه لا ينفك عنه في مقام من المقامات، وإنما هذا الترتيب «ترتيب المشروط المتوقف على شرطه، المصاحب له» ومثال ذلك أن (الرضا) مترتب على (الصبر) لتوقف الرضا عليه، واستحالة ثبوته بدونه. فإذا قيل إن مقام (الرضا) أو حاله على الخلاف بينهم، هل هو مقام، أو حال؟ بعد مقام (الصبر) لا يعني به أنه يفارق الصبر، وينتقل إلى الرضا، وإنما يعني أنه لا يحصل له مقام الرضا، حتى يتقدم له قبله مقام الصبر، فافهم هذا الترتيب في مقامات العبودية. انتهى.
والله أعلم.