الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على أن الحكم بتحريم الملاكمة على صورتها المتعارف عليها في المباريات التنافسية، حكم معلل، وعلته مفهومة، فإن زالت هذه العلة، وكانت غاية ممارسة هذه الرياضة تقوية البدن، واكتساب خبرة في الدفاع عن النفس، دون إيقاع ضرر ـ لا بالنفس، ولا بالغير ـ زالت الحرمة تبعا، فإن الأحكام تدور مع العلل، وجودا وعدما، وهذا قد سبق أن نبهنا عليه، ونقلنا إجماع علماء مجمع الفقه الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي، على حرمة الملاكمة المعهودة اليوم، والتي تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من المتغالبين للآخر، إيذاء بالغا في جسمه. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 130472.
وإنما قدمنا ذلك، سعيا في إزالة الشبهة عن السائل في هذا الحكم.
وأما ما ذكره من ممارسة هذه الرياضة مع لبس واقي الوجه، فهذا مع مراعاة اللاعبين للحدود الشرعية، وتخليص ممارستها من استباحة إيذاء الخصم، وتحري عدم الإضرار به، يمكن أن يكون رافعا للحرمة. وذلك أن السائل نقل عن المدربين في حال استعمال الواقي، ما محصله أن ذلك لا يمنع الضرر بالكلية، ولكن يقلله جدا، ويجعل حدوثه في حكم النادر، وأنه إن حصل يكون محدودا ومحتملا، يعني أنه لا يؤدي إلى هلاك النفس، أو تلف الأعضاء، ونحو ذلك من الأضرار الشديدة. فكيف لو تحرى اللاعبون مع ذلك: عدم الإضرار بالخصم، ولم يستبيحوا إيذاءه؟!
وإذا اتضح ذلك، زال إشكال السائل؛ لأن القدر النافع من مثل هذه الرياضة، يمكن تحصيله دون الوقوع في المحاذير الشرعية، إذا تخلينا عن العرف السائد في هذه الرياضة، وصار الغرض تقوية البدن، وتعلم فنون الدفاع عن النفس، لا إيذاء الخصم والإضرار به؛ للتغلب عليه، والفوز في المنافسة.
وبغض النظر عما تقدم، وعن هذه المسألة بخصوصها، فإن المسلم إذا استبان له إجماع العلماء على حكم شرعي، وجب عليه العمل به، وحرم عليه مخالفته، لأن الإجماع إن حصل بالفعل، كان حجة ملزمة، ومخالفته بعد ذلك لا تكون إلا لهوى، أو شبهة. فإذا أزيلت الشبهة، لم يبق إلا الهوى المذموم ـ والعياذ بالله ـ ومخالفة الإجماع معصية، ولا تكون كفرا إلا اقتضت رد، أو جحد نص معلوم شائع بين الناس. وراجع في ذلك الفتويين: 185943، 278461. وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 313435.
والله أعلم.