الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنشكرك على اهتمامك بدينك، والحرص على طيب المأكل والمشرب والملبس، ونسأل الله لنا ولك الثبات والتوفيق.
ثم إنه لا شك أن أكل الحرام من أسباب عدم استجابة الدعاء، كما يدل له حديث مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس؛ إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم، وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك.
وراجعي للفائدة، الفتوى رقم: 58054.
ولكن ما يحصل منك من أكل ما يطعمك به الوالد، أمر لا يضرك، ولا يلحقك به إثم؛ لأنك غير راضية به، ولأن أموال الحرام تصرف في مصالح المسلمين وعلى فقرائهم، وإذا كان أولاد كاسب الحرام محتاجين، فيجوز لهم الاستفادة من ماله باعتبار فقرهم.
قال الإمام النووي -رحمه الله- نقلا عن الغزالي في معرض كلامه عن المال الحرام والتوبة منه ما نصه: وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء، فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ قدر حاجته، لأنه أيضا فقير. اهـ.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين سؤالًا جاء فيه: فضيلة الشيخ! السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، لي أخ يعمل في أحد البنوك الربوية، قد تحدثتُ معه في هذا الأمر، ولكنه يعتمد في صحة شرعية عمله على فتوى الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي مصر آنذاك، وعند عودتنا إلى مصر في العطلة الصيفية، فإنه يدعوني وأسرتي إلى تناول الطعام في بيته، وليس له دخل سوى مرتبه من هذا العمل، فهل لي أن ألبي الدعوة حرصًا على صلة الرحم أم لا؟ وهل يجوز إعطاؤه مبلغًا من المال على سبيل الهدية، بنية أنه إذا دعاني للطعام عنده أكون بذلك قد أكلت من مالي حفاظًا على صلة الرحم؟ أفتونا -جزاكم الله خيرًا-
الجواب: أقول: إذا كان هذا الرجل صادقًا في أنه اتبع فتوى هذا العالم، وليس قصده تتبع الرخص، فليس عليه إثم أصلًا؛ لأن الله يقول: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {النحل:43}. وهذا قد اقتدى بعالم، وليس عليه شيء، كما لو أن إنسانًا أكل لحم جزور، وسأل عالمًا من العلماء، فقال له: إن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء، فصلى وهو آكل لحم الجزور. فهل تبطل صلاته؟ لا، هذا الذي أكل الربا محتجًا بقول عالم مقلَّدٍ للفتيا، ليس قصده الهوى، واتباع الرخص لا شيء عليه، هذا من حيث عمل أخيك. أما الذي نرى أن فتوى مفتي مصر في هذا الباب خطأ وغلط، وأنه لا فرق بين الربا الاستثماري والربا الاستغلالي، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ إليه بتمر طيب، فسأل، فقالوا: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: هذا عين الربا، وأمر برده، وهذا واضح أنه ليس به استغلال، وليس به ظلم، ومع ذلك حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، فالفتوى غلط، وعلى هذا فنرى أن أخاك ما دام يعين على أكل الربا، ويكتبه، ويشهد به نرى أنه آثم، وأنه يجب عليه التخلي عنه، لكن إن أصر وبقي وذهبتَ أنت إليه، وأكلت مما عنده، فلا بأس، ولا إثم عليك، حتى وإن كنت تعتقد أن هذا حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه أنه أكل من طعام اليهود، واليهود -كما تعلمون- أكالون للسحت، آخذون للربا، ولم يسأل الرسول يقول: هل تعاملتم بالربا أو لا؟ فدل ذلك على أنه يجوز للإنسان أن يأكل ممن كَسْبُه حرام، ولا إثم عليه، ولكن لا تيأس أكثر من النصيحة لأخيك -لعل الله يهديه- وبشره أنه إن تاب فله ما سلف، كل ما كسبه قبل ذلك فهو له حلال؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ {البقرة:275} لا سيما إذا كان مستندًا إلى فتوى يرى أنها صحيحة - نسأل الله أن يرزقني وإياكم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا-. انتهى.
والله أعلم.