الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن هذه القصة من الإسرائيليات التي تحكى للاستئناس بها، لا للاستنباط منها، والاحتجاج بها، والمراد بها إثبات فضل بر الأم، وأثر صلاح الآباء على حفظ الأبناء.
ولفظها كما في تفسير البغوي، وتفسير الخازن: أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى تكبر، ومات الرجل، فصارت العجلة في الغيضة عوانا، وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن، وكان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره، فيأتي به إلى السوق، فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك ورَّثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها -وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها- فأتى الفتى الغيضة، فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي إلي، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت: أيها الفتى البار بوالدتك اركبني، فإن ذلك أهون عليك. فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل؛ لبرك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه، فقالت له: إنك فقير لا مال لك، فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي - وكان ثمن البقرة يومئذ ثلاثة دنانير- فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكا ليُري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بر بوالدته، وكان الله به خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضى والدتي. فقال الملك: لك ستة دنانير، ولا تستأمر والدتك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضى أمي، فردها إلى أمه، فأخبرها بالثمن فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأمرت أمك فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على أن أستأمرها، فقال الملك: فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى، فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة، فإن موسى بن عمران -عليه السلام- يشتريها منك لقتيل يُقتل في بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير. فأمسكوها، وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون موسى حتى وصف لهم تلك البقرة، مكافأة له على بره بوالدته، فضلا منه ورحمة. انتهى.
وعلى تقدير ثبوت هذه القصة، فإنها من باب كرامات الأولياء، ولا يشكل عليها أن التوكل على الله تعالى لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب، فإنه يحتمل أن هذا الراجل الصالح لم يكن عنده سبب، أو طريقة لحفظ هذه البقرة، وقد شعر بقرب أجله، فاستودعها الله تعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا استودع شيئا، حفظه. رواه ابن حبان والبيهقي، وصححه الألباني. فالله تعالى هو الذي لا تضيع ودائعه، كما قال أبو هريرة: ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلا قال له أيضا: أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك. رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
ومع ذلك، فقد أشار الشيخ ابن عثيمين إلى هذه القصة، ثم قال: وبهذا التقرير نعرف أنه لا حاجة بنا إلى ما ذكره كثير من المفسرين من الإسرائيليات، من أن هذه البقرة كانت عند رجل بارّ بأمه، وأنهم اشتروها منه بملء مَسكها ذهباً. يعني بملء جلدها ذهباً؛ وهذا من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، ولكن ظاهر القرآن هنا يدل على كذبها؛ إذ لو كان واقعاً لكان نقله من الأهمية بمكان؛ لما فيه من الحث على برّ الوالدين حتى نعتبر؛ فالصواب أن نقول في تفسير الآية ما قال الله عزّ وجلّ، ولا نتعرض للأمور التي ذكرها المفسرون هنا من الحكايات ... انتهى.
والله أعلم.