الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالموقف من مسائل الخلاف يختلف بحسب مرتبة الشخص نفسه، فمن تأهل للاجتهاد، أو للتمييز بين أقوال العلماء لمعرفة الراجح الأقرب إلى الدليل، فهذا حقه أن يعمل بما أدّاه إليه اجتهاده.
وأما العامي المقلّد فإنه يقلّد الأعلم والأوثق في نفسه من أهل العلم بحسب ما يظهر له، ولا يجوز له أن يتتبع الرخص أخذًا بالأيسر مطلقًا، على سبيل التشهي، واتباع الهوى، دون مرجّح شرعي ـ فهذا منكر لا يجوز، وقد حكى ابن عبد البر، وابن حزم الإجماع على ذلك، وقال النووي: ليس للمفتي، والعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر، بل عليه العمل بأرجحهما. اهـ. وراجعي تفصيل ذلك في الفتويين: 133956، 140418.
فإذا تكافأ عنده أهل العلم، ولم يجد ما يرجح به بينهم، فقيل: يأخذ بالأشد؛ لكونه أحوط، ولحصول براءة الذمة به بيقين. وقيل: يأخذ بأي الأقوال شاء ما لم يقصد تتبع الرخص. وقيل: يأخذ بالأيسر؛ لكون الشريعة مبنية على التخفيف، وهذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين، كما سبق أن بيناه في الفتويين: 170671، 169801.
وأما مسألة الخروج من الخلاف بالأخذ بالأورع، فهذا من الفضائل المستحبة التي يمدح عليها صاحبها، طالما لم تستبن له الأدلة، وخفي عليه وجه السنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح عمدة الفقه: أما الخروج من اختلاف العلماء فإنما يفعل احتياطًا إذا لم تعرف السنة، ولم يتبين الحق.. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب مراعاة الخلاف في الجملة، باجتناب ما اختلف في تحريمه، وفعل ما اختلف في وجوبه. اهـ. وقد سبق لنا تفصيل القول في هذه المسألة في الفتوى رقم: 204754.
ولا فرق في هذه الاستحباب بين التزام المرء به في نفسه، وبين نصحه لغيره بفعله، طالما لم ينكر الخلاف، ولم يضيق واسعًا، بل أشار فقط بالأفضل والأورع على من سأله.
وأخيرًا ننبه على أن المسائل التي ذكرتها السائلة، منها ما فيه خلاف سائغ معتبر، كالخلاف في كشف المرأة وجهها، وسماع الدف، ومنه ما فيه خلاف ضعيف، كسماع سائر المعازف.
وراجعي في تفصيل ذلك الفتاوى التالي أرقامها: 163795، 176031، 263251، 232915.
والله أعلم.