الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله أن منَّ عليك بالهداية، ووفقك إلى ترك ذلك العمل في البنك الربوي.
وأما ما سألت عنه، فجوابه: أن لا حرج عليك في الانتفاع بما استهلكت فيه ذلك المال من أغراض، وثياب، وحشوات أسنان، أو غيرها، لكن هل يلزمك دفع ما استهلكته من مال في ذلك، أم لا يلزمك شيء؟ ينبني الحكم على ما إذا كنت معذورًا في بقائك في العمل بالفتاوى التي اطلعت عليها أو أفتيت بها -وحينئذ لا يلزم التخلص مما اكتسبته من ذلك العمل- أم لست معذورًا؛ وحينئذ عليك التخلص مما اكتسبته منه؛ إلا أن تكون فقيرًا محتاجًا، فأنت من مصارف المال الحرام حينئذ، ولا يلزمك دفع قيمة ما استهلكته، ولا التخلص مما لديك من نقود إن كان بقي لديك منها شيء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: والملك الخبيث سبيله التصرف به، ولو صرفه في حاجه نفسه جاز، ثم إن كان غنيًّا تصدق بمثله، وإن كان فقيرًا لا يتصدق. اهـ.
وأما هل أنت معذور بعملك بفتوى من أباح العمل مع علمك بفتوى من حرم، وميلك إليها؟
فالجواب أن من عمل عملًا بناء على فتوى لبعض أهل العلم، وهو لا يعلم خطأها، وأنها مردودة، وليس متتبعًا للرخص، فهو معذور بذلك -إن شاء الله تعالى-، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين سؤالًا جاء فيه: فضيلة الشيخ، السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، لي أخ يعمل في أحد البنوك الربوية، قد تحدثتُ معه في هذا الأمر، ولكنه يعتمد في صحة شرعية عمله على فتوى الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي مصر آنذاك، وعند عودتنا إلى مصر في العطلة الصيفية فإنه يدعوني وأسرتي إلى تناول الطعام في بيته، وليس له دخل سوى مرتبه من هذا العمل، فهل لي أن ألبي الدعوة حرصًا على صلة الرحم أم لا؟ وهل يجوز إعطاؤه مبلغًا من المال على سبيل الهدية بنية أنه إذا دعاني للطعام عنده أكون بذلك قد أكلت من مالي حفاظًا على صلة الرحم؟ أفتونا -جزاكم الله خيرًا-.
الجواب: أقول: إذا كان هذا الرجل صادقًا في أنه اتبع فتوى هذا العالم، وليس قصده تتبع الرخص، فليس عليه إثم أصلًا؛ لأن الله يقول: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {النحل:43} وهذا قد اقتدى بعالم، وليس عليه شيء، كما لو أن إنسانًا أكل لحم جزور وسأل عالمًا من العلماء، فقال له: إن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء، فصلى وهو آكل لحم الجزور فهل تبطل صلاته؟ لا، هذا الذي أكل الربا محتجًا بقول عالم مقلَّد للفتيا، ليس قصده الهوى، واتباع الرخص لا شيء عليه، هذا من حيث عمل أخيك.
أما الذي نرى أن فتوى مفتي مصر في هذا الباب خطأ وغلط، وأنه لا فرق بين الربا الاستثماري والربا الاستغلالي، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ إليه بتمر طيب فسأل، فقالوا: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: هذا عين الربا، وأمر برده، وهذا واضح أنه ليس به استغلال، وليس به ظلم، ومع ذلك حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، فالفتوى غلط؛ وعلى هذا فنرى أن أخاك ما دام يعين على أكل الربا، ويكتبه، ويشهد به نرى أنه آثم، وأنه يجب عليه التخلي عنه، لكن إن أصرّ وبقي وذهبتَ أنت إليه وأكلت مما عنده، فلا بأس، ولا إثم عليك، حتى وإن كنت تعتقد أن هذا حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه أنه أكل من طعام اليهود، واليهود -كما تعلمون- أكالون للسحت، آخذون للربا، ولم يسأل الرسول يقول: هل تعاملتم بالربا أو لا؟ فدل ذلك على أنه يجوز للإنسان أن يأكل ممن كَسْبُه حرام، ولا إثم عليه، ولكن لا تيأس أكثر من النصيحة لأخيك -لعل الله يهديه- وبشره أنه إن تاب فله ما سلف، كل ما كسبه قبل ذلك فهو له حلال؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ {البقرة:275} لا سيما إذا كان مستندًا إلى فتوى يرى أنها صحيحة - نسأل الله أن يرزقني وإياكم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا-. انتهى.
وبناء على هذا؛ فأنت معذور -إن شاء الله تعالى- قبل أن يتبين لك خطأ الفتوى القائلة بالإباحة، وأنه لا يعول عليها، وقد أحسنت في الكف عن العمل وتركه، ومن ثم؛ فلا حرج عليك في الانتفاع بما عندك مما كسبته من ذلك العمل في حال عدم علمك بحرمته، أو في اضطرارك إليه -كما ذكرت-، ولا يلزمك التخلص من الأغراض، أو غيرها مما استهلكت فيه ذلك المال.
واحذر من الوساوس والشكوك، فأعرض عنها صفحًا، واستغفر الله، واستعذ به من شر الشيطان.
والله أعلم.