الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على قاعدة تضمين المباشر دون المتسبب، وإن كانت هي الأصل أو الغالب، إلا إنها ليست كلية، ففي بعض الصور يضمن المتسبب دون المباشر، وفي بعضهما يشتركان في الضمان. وذلك في حال كانت المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه. قال ابن رجب في (القواعد): "إذا استند إتلاف أموال الآدميين ونفوسهم إلى مباشرة وسبب، تعلق الضمان بالمباشرة دون السبب، إلا إذا كانت المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه .. ثم إن كانت المباشرة والحالة هذه لا عدوان فيها بالكلية، استقل السبب وحده بالضمان، وإن كان فيها عدوان شاركت السبب في الضمان. فالأقسام ثلاثة. ومن صور القسم الأول مسائل، منها: إذا حفر واحد بئرا عدوانا ثم دفع غيره فيها آدميا معصوما أو مالا لمعصوم فسقط فتلف، فالضمان على الدافع وحده ... ومن صور القسم الثاني مسائل، منها: لو قدم إليه طعاما مسموما عالما به فأكله وهو لا يعلم بالحال، فالقاتل هو المقدم، وعليه القصاص أو الدية. ومنها: لو قتل الحاكم حدا أو قصاصا بشهادة، ثم أقر الشهود أنهم تعمدوا الكذب، فالضمان والقود عليهم دون الحاكم ... ومنها: المكره على إتلاف مال الغير، وفي الضمان وجهان: أحدهما: أنه على المكره وحده، لكن للمستحق مطالبة المتلف، ويرجع به على المكره؛ لأنه معذور في ذلك الفعل فلم يلزمه الضمان، بخلاف المكرَه على القتل فإنه غير معذور، فلهذا شاركه في الضمان، وبهذا جزم القاضي في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وابن عقيل في عمد الأدلة. والثاني: عليهما بالضمان كالدية، صرح به في التلخيص، وذكره القاضي في بعض تعاليقه احتمالا ... ومن صور القسم الثالث مسائل، منها: المكره على القتل، والمذهب اشتراك المكره في القود والضمان؛ لأن الإكراه ليس بعذر في القتل. اهـ.
ومن ذلك حوادث السير بين الآليات والمشاة، إذا كان الماشي متعديا، وتسبب هذا التعدي في فعل المركبة ما ترتب عليه ضرر. وكذلك إذا قصَّر الماشي في التحرز، وفعل السائق ما يلزمه. ومن أمثلة ذلك ما ذكره غياث الدين البغدادي في (مجمع الضمانات) فقال: " رجل ساق حمارا وعليه وقر حطب، وكان رجل واقفا في الطريق أو يسير، فقال السائق بالفارسية: كوست كوست أو برت برت، فلم يسمع الواقف حتى أصابه الحطب فخرق ثوبه، أو سمع لكن لم يتهيأ له أن يتنحى عن الطريق لضيق المدة: ضمن، وإن سمع وتهيأ لكن لم ينتقل لا يضمن. اهـ. وجاء في (درر الحكام في شرح مجلة الأحكام): "يشترط في ضمان المتسبب شيئان: (1) : أن يكون متعمدا. (2) : أن يكون معتديا. فعليه، لو ذعر حيوان شخص من آخر وفر، فلا ضمان على الشخص الذي فر منه الحيوان ما لم يكن متعمدا ... كذا لو حفر شخص بئرا في الطريق العام ولم يكن مأذونا بذلك من قبل ولي الأمر، فسقط في البئر حيوان وتلف، فيكون ضامنا بافتياته على ما ليس له فيه حق وتعديه، بخلاف ما لو استأذن لحفره فلا ضمان عليه ... كذلك: لو أسقى من له حق الشراب أراضيه حسب العادة فطفت المياه على أراضي جيرانه فأحدثت ضررا فيها فليس من ضمان عليه. أما لو كان الإسقاء على خلاف العادة فيكون ضامنا ". اهـ.
والمقصود أن السائق وإن كان مباشرا لفعل الضرر، إلا إنه لا يتحمل وحده المسئولية إذا كان المتسبب – وهو الماشي المضرور – قد تعدى قواعد السير، وفعل ما ترتب عليه وقوع الضرر. ولذلك فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع حوادث السير، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر أن: "الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر، ولا يعفي من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أ- إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة.
ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
ثالثاً: ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.
رابعاً: إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال. خامساً:
أ- مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً.
ب- إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعد.
ج- إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة اثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء. اهـ.
ويمكن للسائل أن يطلع على العدد الثامن من (مجلة مجمع الفقه الإسلامي) ففيه عدة بحوث في موضوع حوادث السير. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 232042.
والله أعلم.