الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالكلام بين الرجل والمرأة الأجنبية، ليس ممنوعاً في الشرع على إطلاقه، ولكن الممنوع منه ما يؤدي إلى الفتنة، كالخضوع بالقول، وهو الليونة والميوعة في الكلام، قال تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا. {الأحزاب:32}
جاء في تفسير ابن عطية -رحمه الله-: ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول، و «لا تخضعن» معناه ولا تلن، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها، وإن لم يكن المعنى مريبا. اهـ.
وفي تفسير ابن كثير -رحمه الله-: قَالَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ: تَرْقِيقَ الْكَلَامِ إِذَا خَاطَبْنَ الرِّجَالَ..... وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْأَجَانِبَ بِكَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْخِيمٌ، أَيْ: لَا تُخَاطِبِ الْمَرْأَةُ الْأَجَانِبَ كَمَا تُخَاطِبُ زَوْجَهَا. اهـ.
فإذا كانت الفتنة مأمونة، والريبة منتفية، فالكلام جائز ولو تضمن ممازحة، لكن هذا إنما يتصور إذا كانت المرأة عجوزا لا تشتهى، أما الشابة، فالكلام معها بلا حاجة -فضلاً عن ممازحتها- هو في ذاته باب فتنة، وذريعة فساد.
قال العلّامة الخادمي -رحمه الله- في كتابه: بريقة محمودية (وهو حنفي): التكلم مع الشابة الأجنبية لا يجوز، بلا حاجة؛ لأنه مظنة الفتنة. اهـ.
وقد ذكر البخاري في صحيحه: باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال.
قال ابن حجر: والمراد بجوازه، أن يكون عند أمن الفتنة. فتح الباري - ابن حجر -
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: الرجل لا يسلم على المرأة، والمرأة لا تسلم على الرجل؛ لأن هذا فتنة، اللهم إلا عند مكالمة هاتفية، فتسلم المرأة أو الرجل بقدر الحاجة فقط، أو إذا كانت المرأة من معارفه، مثل أن يدخل بيته فيجد فيه امرأة يعرفها وتعرفه، فيسلم، وهذا لا بأس به، أما أن يسلم على امرأة لقيته في السوق، فهذا من أعظم الفتنة، فلا يسلم. اهـ.
وليس الأمر مختصاً بالكلام المباشر، ولكن المنهي عنه كل قول أو فعل يؤدي إلى الفتنة، ويحرك الغرائز، قال تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. {النور : 31}
قال الطاهر بن عاشور -رحمه الله-: ..وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يُذَكِّرَ الرجل بلهو النساء، ويثير منه إليهن من كل ما يُرى أو يسمع من زينة، أو حركة كالتثني والغناء.." التحرير والتنوير.
فالخلاصة أنّ كل ما من شأنه أن يؤدي إلى فتنة بالمرأة، فهو ممنوع، وما كان بعيداً عن الفتنة، فهو جائز.
والله أعلم.