الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يهدي أخاك، وأن يشرح صدره للحق.
وقد أحسنت بحرصك على وصل أخيك، وأخذك عليه ألا يشرب الخمر بحضرتك، فالمسلم منهي عن شهود المجالس التي يعصى فيها لغير ضرورة -إلا إن كان قادرًا على إزالة المنكر-، قال سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء:140}.
قال ابن تيمية: ولا يجوز لأحد أن يشهد مجالس المنكرات باختياره بغير ضرورة، ورفع إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- قوم شربوا الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل: فيهم فلان صائم، فقال: به ابدؤوا، أما سمعت الله تعالى يقول: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم} فجعل حاضر المنكر كفاعله. اهـ.
وقال أيضًا: وقوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}، فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة، مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم. وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر، لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره؛ ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله، وفي الحديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر}. اهـ.
وقال ابن عثيمين: الجلوس مع أهل المنكر مع استطاعة الإنسان أن يقومَ مشارك لهم في الإثم؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] يعني: إن قعدتم فأنتم مثلهم، ولا يحل لأحد أن يقعد مع أهل المنكر، إلا إذا كان في خروجه ضرر، أما مجرد أن يَغْضَب أهله، أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس بعذر، فلو كان أهله مثلًا يفتحون التلفاز على شيء محرم، ونهاهم؛ ولكن لم ينتهوا وجب عليه أن يقوم، فإذا قال: إن قمتُ يزعل عليَّ أبي، أو أمي، أو الزوجة، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يبقى، بل يجب أن يقوم، ولو غضبوا؛ لأن التماس رضا الناس بسخط الله، يعني تقديم ما يرضاه الناس على ما يرضاه الله -والعياذ بالله-.اهـ.
ولعل الأفضل أيضًا أن تأخذ على أخيك أيضًا عند لقائك به أن يكف عن الطعن في الشرع، ودواوينه، وحملته، فالجدال المباشر مع أرباب هذه الأفكار القميئة قل أن يفيد، بل قد يزيدهم الجدال والنقاش إصرارًا على باطلهم، إلا من رحم الله، فضلًا عن أن الجدال يضرم نار العداوة والبغضاء بينك وبين أخيك، وأيضًا فقد يلقي عليك شبهًا تفضي بك إلى الشك فيما عندك من الحق، وقد كان أئمة السلف مع سعة علمهم يعرضون عن سماع الشبهات، قال معمر في جامعه - المنشور ملحقًا بمصنف عبد الرزاق -، قال: كنت عند ابن طاووس، وعنده ابن له إذ أتاه رجل يقال له: صالح، يتكلم في القدر، فتكلم بشيء فتنبه، فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد، فلا تسمع من قوله شيئًا، فإن القلب ضعيف. اهـ.
وقال الذهبي في السير: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. اهـ.
فالأولى أن تتحين الأوقات المناسبة لتبادر أنت بوعظ أخيك، وتذكيره برفق، وهدوء -بلا جدال، ونقاش-، وأن تحيله إلى الكتب، والمقالات، والدروس، والمحاضرات التي تبين وتجلي الحق في القضايا التي ينكرها، ويخوض فيها بغير علم، فهذه الطريقة أنجع وأنفع من المجادلة المباشرة مع أرباب الأفكار المنحرفة، لا سيما لمن لم يكن عنده علم كاف.
والله أعلم.