الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فإجمالا لجواب السائل نقول: الخلاف الواقع بين أقوال أهل العلم ينبغي أن نفرق بين أنواعه:
فمنه اختلاف التنوع الذي لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضاً للأقوال الأخرى، بل كلها صحيحة.
ومنه اختلاف التضاد، الذي لا يمكن الجمع بين أقواله، فكل قول يضاد الآخر، ويحكم بخطئه أو بطلانه. وهذا النوع منه: السائغ المعتبر، ومنه: غير السائغ ولا المعتبر، فالأول إنما هو اختلاف في الفهم، ولا يصادم نصا ولا إجماعا سابقا، بخلاف الثاني فإنه لا يعتمد على الأدلة الشرعية، وإنما يعتمد في الغالب على الهوى والرأي المجرد، أو الأدلة الضعيفة البعيدة المأخذ. وقد سبق لنا بيان أنواع الخلاف، وموقف المسلم منها، وبيان أسباب اختلاف العلماء وما وراء ذلك من الحكم، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 8675، 6787، 62771، 16387، 26350.
وإذا تقرر ذلك، عرف السائل أن بعض أنواع الخلاف يسعه أن يعمل فيها بما ذكر، من التخير من أقوال العلماء، والعمل بهذا تارة وبهذا تارة، وهذا في اختلاف التنوع. وأما اختلاف التضاد فيختلف الحكم فيه بحسب حال المكلف، من حيث العلم والدراية والفهم لكيفية الترجيح بين الأقوال، والتأهل لاختيار أقربها لمراد الشرع، فمن الناس من يلزمه العمل بنوع ترجيح، ومنهم من يلزمه تقليد الأوثق في نفسه عند اختلاف المفتين عليه، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 120640، 203266، 256219.
ومن الكلام الجامع في جواب السائل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) حيث قال: أما أنواعه – يعني الاختلاف - : فهو في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن». ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل ... ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى قول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك ... ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا. ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين ... وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان، إما في الأصول، وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: المصيب واحد. وإلا فمن قال: كل مجتهد مصيب، فعنده: هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد، فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان ... وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي، كما في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم وترك آخرون. وكما في قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالعلم والحكم. وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» .. ونظائره كثيرة. وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام. اهـ.
وذكر شيخ الإسلام في (منهاج السنة النبوية) بعض مسائل خلاف التنوع وقال: والصحيح الذي لا يجوز أن يقال بغيره: أن كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو جائز، وإن كان المختار يختار بعض ذلك فهذا من اختلاف التنوع. ومن ذلك أنواع الاستفتاحات في الصلاة ... ومن ذلك صفات الاستعاذة، وأنواع الأدعية في آخر الصلاة، وأنواع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود مع التسبيح المأمور به. ومن ذلك صلاة التطوع: يخير فيها بين القيام والقعود، ويخير بين الجهر بالليل والمخافتة إلى أمثال ذلك. ومن ذلك تخيير الحاج بين التعجيل في يومين من أيام منى وبين التأخر إلى اليوم الثالث. وهذا الاختلاف قسمان: أحدهما يكون الإنسان مخيرا فيه بين النوعين بدون اجتهاد في أصلحهما، والثاني يكون تخييره بحسب ما يراه من المصلحة. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67، 68] قال: قرأ بعض القراء بالباء الموحدة، وقرأ آخرون بالثاء المثلثة وهما قريبا المعنى؛ كما في حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله؛ علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» أخرجاه في الصحيحين، يروى "كثيرا" و: كبيرا" وكلاهما بمعنى صحيح. واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة وهذا تارة، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيهما قرأ فحسن، وليس له الجمع بينهما. اهـ.
ونكتفي بهذا القدر في جواب السائل، ولمزيد الفائدة عن موضوع سؤاله يمكنه الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 127607، 138799، 229444.
والله تعالى أعلم.