الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته من أنه لا يوجد في زماننا من يقوم بهذه العبادات مبالغ فيه، ففي الأمة الآن من يقوم الليل كله أو نصفه، فإن الخير لا يزال في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الخير والصلاح موجودون في كل عصر مبثوثون في أقطار الأرض، ومن أين لك نفي وجودهم وأنت غير مطلعة على جميع أحوال الناس في شتى البلاد؟! ولا شك في أن الصحابة ومن بعدهم في القرون الفاضلة قد أوتوا في باب الاجتهاد في العبادة النصيب الأوفر والحظ الأكبر، فضلا عما اختصهم الله به من الكمالات، فكانوا خير القرون، ولا يعني هذا انتفاء القيام ببعض ذلك في من بعدهم.
وأنت بحمد الله على خير كثير، وما تفعلينه من القيام مما تؤجرين عليه وتثابين بفعله ـ إن شاء الله ـ ومداومتك على هذا القدر أمر حسن، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، على أنك لو جاهدت نفسك في الزيادة التدريجية من هذا الخير، فتزيدين في حصة القيام شيئا فشيئا، فكلما اعتدت قدرا زدت عليه، فذلك حسن جميل.
وأفضل القيام قيام داود ـ عليه السلام ـ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام. كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه. وكان يصوم يوما، ويفطر يوما.
فإذا تمكنت من قيام ثلث الليل بعد نومك نصفه فحبذا ما تفعلين، وإلا فكل ما تأتين به من الصلاة في الليل هو من قيام الليل الذي تؤجرين عليه.
وشكر الله لك نيتك الصالحة، وحرصك على الخير والتزود منه، لكن اعلمي أن الوصول إلى ما تطمح إليه نفسك في هذا الباب لا يكون إلا بمزيد المجاهدة والمصابرة، ومهما جاهدت نفسك استقامت لك، وتلذذت غدا بما يشق عليك فعله اليوم. وانظري الفتوى: 139680.
وعليك مع المجاهدة الصادقة بالاجتهاد في الدعاء، والإكثار من قراءة سير القوم وتراجمهم ككتاب سير الأعلام والنبلاء للإمام الذهبي، وكتاب صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي، وكتاب الزهد والرقائق للإمام عبد الله بن المبارك وغيرها، فإن ذلك من أعظم المحفزات على مزيد النشاط في العبادة.
وفقنا الله وإياك، لما فيه رضاه.
والله أعلم.