الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فهذا المبلغ الذي أعطته الأم لولدها ولم تقل له إنه سلف، لا يعد هبة على ما يظهر -والله أعلم- إلا إذا صرحت له بأن المبلغ هبة، أو رافقَ الإعطاء قرينةٌ تدل على أنها أرادت الهبة؛ لأن الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول، وبالمعاطاة الدالة عليها، كما نص عليه الفقهاء.
قال صاحب الروض: وتنعقد) الهبة بالإيجاب والقبول بأن يقول: وهبتك، أو أهديتك، أو أعطيتك، فيقول: قبلت، أو رضيت ونحوه، أو بـالمعاطاة الدالة عليها، أي على الهبة. اهــ.
ونص الفقهاء أيضا على أن "من قال لابنه: اعمل في هذا المكان جناناً، أو ابن فيه داراً، ففعل الابن في حياة أبيه، وصار الأب يقول: جنان ابني ـ فإن القاعة لا يملكها الابن بذلك" اهـ
فمجرد الإعطاء لا تحصل به الهبة، فإن لم تصرح الوالدة بأن المبلغ هبة، أو هدية له، ولم يقترن بالإعطاء ما يدل على أنها أرادت الهبة، فإنه يلزمه رد ذلك المبلغ إلى التركة، ويُقسم بين جميع الورثة، القسمة الشرعية.
وإذا اقترن بإعطائها المبلغ له ما يدل على أنها أرادت الهبة، فإنها تعتبر هبة، ولا يشترط في الهبة أن تقع بلفظ الإيجاب والقبول، بل تقع بالمعاطاة الدالة عليها كما قال صاحب الزاد: وتنعقد بالإيجاب والقبول، والمعاطاة الدالة عليها. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: وَتَصِحُّ الْهِبَةُ بِالْمُعَاطَاةِ؛ لأِنَّ الْهِبَةَ فِي حَقِيقَتِهَا عَطِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي، وَيُعْطَى مِنْ غَيْرِ أَلْفَاظٍ. اهـ.
وإذا وجدت قرينة تدل على أنها أرادت بإعطائه المبلغ أن يكون هبة له، فإنه يُنظر في هذه الهبة من جهتين:
أولهما: الوقت الذي أعطته فيه المبلغ، فإن كانت أعطته المبلغ في مرضها المخوف، فإن الهبة في هذه الحال تعتبر في حكم الوصية، والوصية للوارث ممنوعة، فيلزمه رد المبلغ للتركة، ويقسم بين الورثة كما ذكرنا.
وإن كانت أعطته المبلغ في حال صحتها، أو في حال مرضها غير المخوف، فإن الهبة تمت، ويكون المبلغ له.
ثانيهما: إذا كان لها أولاد غيره -ذكورا أو إناثا- ولم تعطهم ما يتحقق به العدل، ولم يكن لتفضيلها ذلك الولد بالمبلغ مسوغا شرعيا، فإن هذه هبة جائرة غير عادلة، لكن ما دام أنها قد ماتت، فإن الهبة تمضي في قول جمهور الفقهاء، ولا ترد بعد الموت فلا يلزمه ردها للتركة.
قال ابن قدامة في المغني: إذَا فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطَايَا، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَزِمَ، وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ. هَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَالْمَيْمُونِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ، وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَرْتَجِعُوا مَا وَهَبَهُ. اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيَّانِ. وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِسْحَاقَ .. اهــ.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية، أنها الهبة الجائرة ترد، ولو بعد موت الواهب.
فقد قال رحمه الله تعالى: وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُفَضَّلُ: فيَنْبَغِي لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَطِيبُ لَهُ الْإِمْسَاكُ إذَا قُلْنَا: لَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ، كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ. اهـ.
وقال في مجموع الفتاوى: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَرُدَّهُ رُدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا؛ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَاتِّبَاعًا لِلْعَدْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ؛ وَاقْتِدَاءً بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. وَلَا يَحِلُّ لِلَّذِي فَضَلَ أَنْ يَأْخُذَ الْفَضْلَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاسِمَ إخْوَتَهُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. اهــ.
وهذا كله إذا لم يوجد مسوغ شرعي لتفضيله بالهبة.
أما إذا وجد مسوغ كأن يكون فقيرا دون إخوته وأخواته، أو مريضا ونحوه فإنه لا حرج عليه في تملك ذلك المبلغ، إذا أعطته له في غير مرضها المخوف، وأرادت الهبة.
والله تعالى أعلم.