الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث شرحه الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قالت: رَجَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ جِنَازَةٍ مِنَ الْبَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهُ.. فقال: ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ ـ ذَاكِ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ الْمَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ، أَيْ: لَوْ مُتّ وَأَنَا حَيٌّ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ جَوَابُ عَائِشَةَ، وَقَدْ وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَلَفْظُهُ ثُمَّ قَالَ: مَا ضَرَّك لَوْ مُتّ قَبْلِي فَكَفَّنْتُكَ ثُمَّ صَلَّيْتُ عَلَيْكَ وَدَفَنْتُكَ ـ وَقَوْلُهَا: وَاثُكْلَيَاهُ ـ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا مَعَ التَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ هَاءٌ لِلنُّدْبَةِ، وَأَصْلُ الثَّكَلِ: فَقْدُ الْوَلَدِ، أَوْ مَنْ يَعِزُّ عَلَى الْفَاقِدِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ هُنَا مُرَادَةً، بَلْ هُوَ كَلَامٌ كَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عِنْدَ حُصُولِ الْمُصِيبَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا، وَقَوْلُهَا: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي ـ كَأَنَّهَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ لَهَا: لَوْ مُتِّ قَبْلِي.. وَقَوْلُهَا: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ـ أَيْ مَوْتُهَا لَظَلَلْت آخِرَ يَوْمِك مُعَرِّسًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَالتَّخْفِيفِ، يُقَالُ: أَعْرَسَ وَعَرَّسَ إِذَا بَنَى عَلَى زَوْجَتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ جِمَاعٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، فَإِنَّ التَّعْرِيسَ النُّزُولُ بِلَيْلٍ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ: لَكَأَنِّي بِكَ والله لَوْ قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْت إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْت بِبَعْضِ نِسَائِك، قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلها: بَلِ أَنَا وَارَأْسَاهُ ـ هِيَ كَلِمَةُ إِضْرَابٍ وَالْمَعْنَى: دَعِي ذِكْرَ مَا تَجِدِينَهُ مِنْ وَجَعِ رَأْسِكِ وَاشْتَغِلِي بِي، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ: ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال الحافط: وَفِي الْحَدِيثِ مَا طبِعَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَفِيهِ مُدَاعَبَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ، وَالْإِفْضَاءُ إِلَيْهِمْ بِمَا يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ ذِكْرَ الْوَجَعِ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ، فَكَمْ مِنْ سَاكِتٍ وَهُوَ سَاخِطٌ، وَكَمْ مِنْ شَاكٍّ وَهُوَ رَاضٍ، فَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ لَا على نطق اللِّسَان.
والله أعلم.