الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحكم هنا يعتمد على زمن هذه الكنوز: وهل هي من دفن الجاهلية أم الإسلام؟ ويعتمد كذلك على الأرض التي وجد فيها: هل هي دار حرب أم إسلام، وإن كانت دار إسلام: فهل هي ملك لأحد أم لا، وإن كانت ملكًا لأحد: فهل هو ملك منتقل إلى مالكه ببيع ووراثة أم ملك ابتدائي، وأخيرًا: هل الواجد هو المالك أو غيره.
فهذه التفاصيل يختلف الحكم باعتبارها، ثم باعتبار الاختلاف بين أهل العلم في اجتهاداتهم، وللوقوف على هذه التفاصيل ينبغي الرجوع لكتب الفقه، أو إحدى الموسوعات الفقهية، كالموسوعة الفقهية الكويتية (35 / 142 : 153) عند مصطلح: (كنز).
ونكتفي هنا بنقل شيء مما ذكره ابن قدامة في المغني، فقال: الركاز الذي يتعلق به وجوب الخمس، ما كان من دفن الجاهلية. هذا قول الحسن، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأبي ثور. ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم، كأسماء ملوكهم، وصورهم، وصلبهم، وصور أصنامهم، ونحو ذلك. فإن كان عليه علامة الإسلام، أو اسم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من خلفاء المسلمين، أو وال لهم، أو آية من قرآن، أو نحو ذلك، فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامة الكفر، فكذلك .. لأن الظاهر أنه صار إلى مسلم، ولم يعلم زواله عن ملك المسلمين، فأشبه ما على جميعه علامة المسلمين. اهـ.
ثم عقد فصلًا خاصًّا بمكان أو موضع الركاز، فقال: لا يخلو من أربعة أقسام:
- أحدها: أن يجده في موات، أو ما لا يعلم له مالك، مثل الأرض التي يوجد فيها آثار الملك، كالأبنية القديمة، والتلول، وجدران الجاهلية، وقبورهم. فهذا فيه الخمس بغير خلاف، سوى ما ذكرناه. ولو وجده في هذه الأرض على وجهها، أو في طريق غير مسلوك، أو قرية خراب، فهو كذلك في الحكم؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: ما كان في طريق مأتي، أو في قرية عامرة، فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فلك، وما لم يكن في طريق مأتي، ولا في قرية عامرة، ففيه وفي الركاز الخمس» رواه النسائي.
- القسم الثاني: أن يجده في ملكه المنتقل إليه، فهو له في أحد الوجهين؛ لأنه مال كافر مظهور عليه في الإسلام، فكان لمن ظهر عليه، كالغنائم، ولأن الركاز لا يملك بملك الأرض؛ لأنه مودع فيها، وإنما يملك بالظهور عليه، وهذا قد ظهر عليه، فوجب أن يملكه.
والرواية الثانية: هو للمالك قبله إن اعترف به، وإن لم يعترف به، فهو للذي قبله كذلك، إلى أول مالك. وهذا مذهب الشافعي؛ لأنه كانت يده على الدار، فكانت على ما فيها.
وإن انتقلت الدار بالميراث، حكم بأنه ميراث، فإن اتفق الورثة على أنه لم يكن لمورثهم، فهو لأول مالك، فإن لم يعرف أول مالك، فهو كالمال الضائع الذي لا يعرف له مالك.
والأول أصح -إن شاء الله تعالى-؛ لأن الركاز لا يملك بملك الدار؛ لأنه ليس من أجزائها، وإنما هو مودع فيها، فينزل منزلة المباحات من الحشيش، والحطب، والصيد، يجده في أرض غيره، فيأخذه، فيكون أحق به، لكن إن ادعى المالك الذي انتقل الملك عنه أنه له، فالقول قوله؛ لأن يده كانت عليه، لكونها على محله، وإن لم يدعه، فهو لواجده.
وإن اختلف الورثة، فأنكر بعضهم أن يكون لمورثهم، ولم ينكره الباقون، فحكم من أنكر في نصيبه، حكم المالك الذي لم يعترف به، وحكم المعترفين حكم المالك المعترف.
- القسم الثالث: أن يجده في ملك آدمي مسلم معصوم، أو ذمي، فعن أحمد ما يدل على أنه لصاحب الدار؛ فإنه قال في من استأجر حفارًا ليحفر في داره، فأصاب في الدار كنزًا عاديًّا: فهو لصاحب الدار. وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن. ونقل عن أحمد ما يدل على أنه لواجده؛ لأنه قال في مسألة من استأجر أجيرًا ليحفر له في داره، فأصاب في الدار كنزًا: فهو للأجير. نقل ذلك عنه محمد بن يحيى الكحال. قال القاضي: هو الصحيح. وهذا يدل على أن الركاز لواجده. وهو قول الحسن بن صالح، وأبي ثور. واستحسنه أبو يوسف. وذلك لأن الكنز لا يملك بملك الدار، على ما ذكرنا في القسم الذي قبله، فيكون لمن وجده، لكن إن ادعاه المالك. فالقول قوله؛ لأن يده عليه بكونها على محله. وإن لم يدعه، فهو لواجده. وقال الشافعي: هو لمالك الدار إن اعترف به، وإن لم يعترف به، فهو لأول مالك؛ لأنه في يده.
- القسم الرابع: أن يجده في أرض الحرب، فإن لم يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين، فهو غنيمة لهم، وإن قدر عليه بنفسه، فهو لواجده، حكمه حكم ما لو وجده في موات في أرض المسلمين. وقال أبو حنيفة، والشافعي: إن عرف مالك الأرض، وكان حربيًّا، فهو غنيمة أيضًا؛ لأنه في حرز مالك معين؛ فأشبه ما لو أخذه من بيت، أو خزانة. اهـ.
وانظر الفتوى رقم: 137114.
والله أعلم.