الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل ما ذكرته ليس مشكلا بحمد الله، فإن الغالب على الناس أن المال يفتنهم ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، فيشتغلون به عن مصالح آخرتهم. فهؤلاء المال في حقهم مضرة، وأما من كان المال في يده ولم يكن في قلبه، فهذا الذي يقال فيه: نعم المال الصالح للعبد الصالح، فيتقي بماله ربه، ويصل به رحمه، ولا ينافي وجود المال في يده أن يكون في الدنيا كأنه غريب، أو عابر سبيل، وذلك لأنه وإن كان مالكا لحظ من الدنيا، لكنه غير متعلق به، ولا راكن إليه، بل قلبه متعلق بالله وحده، عالم أن ما بيده من الخير إنما هو نعمة الله أودعها إياه؛ ليتقيه فيها، وينفع بها عباده، وأنه إن شاء سلبها منه، وإذا سلبت نعمته فهو راض بحكم الله، مستسلم لأمره، ليس للدنيا سلطان على قلبه، فهذا بأحسن المنازل وأعلاها درجة عند الله. وهذا كما كان سليمان النبي عليه السلام قد أوتي فشكر، وكما كان جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- فلا شك في أن هؤلاء كانوا يعيشون في الدنيا كأنهم غرباء أو عابرو سبيل، ولم يكن للدنيا سلطان على قلوبهم مع ما كانوا فيه من النعمة وبسطة العيش، ومن ثم كان الغني الشاكر أرفع درجة من الفقير الصابر عند جماعات، وكان أفضلهما أتقاهما لله، كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ودونك هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم -رحمه الله- فإذا تدبرته وعقلته، زال عنك الإشكال في هذا الباب.
قال -طيب الله ثراه-: وكما أن الرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة، فهي أصل معاصي القلب من التسخط والحسد، والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر، وهذا كله من امتلاء القلب بها لا من كونها في اليد، وامتلاء القلب بها ينافي الشكر، ورأس الشكر تفريغ القلب منها، وامتداد المال كامتداد العمر والجاه، فخيركم في الدنيا من طال عمره وحسن عمله، فهكذا من امتد ماله وكثر به خيره فنعم المرء، وماله وجاهه إما أن يرفعه درجات، وإما أن يضعه درجات.
وسر المسألة أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر، وطريق الغنى والسعة في الغالب طريق عطب، فإن اتقى الله في ماله، ووصل به رحمه، وأخرج منه حق الله -وليس مقصورا على الزكاة، بل من حقه إشباع الجائع، وكسوة العاري، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج والمضطر- فطريقه طريق غنيمة، وهي فوق السلامة، فمثل صاحب الفقر كمثل مريض قد حبس بمرضه عن أغراضه، فهو يثاب على حسن صبره على حبسه. وأما الغني فخطره عظيم في جمعه وكسبه وصرفه، فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه في حقه كان أنفع له، فالفقير كالمتعبد المنقطع عن الناس، والغني المنفق في وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد، ولهذا جعله النبي قرين الذي آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، فهو أحد المحسودين اللذين لا ثالث لهما، والجهلة يغبطون المنقطع المتخلي المقصور النفع على نفسه، ويجعلونه أولى بالحسد من المنفق والعالم المعلم. فإن قيل: فأيهما أفضل: من يختار الغنى والتصدق والإنفاق في وجوه البر، أم من يختار الفقر والتقلل ليبعد عن الفتنة ويسلم من الآفة، ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة، فلا يشغله بالدنيا، أم من لا يختار لا هذا ولا ذاك، بل يختار ما اختاره الله له، فلا يعين باختياره واحدا من الأمرين؟
قيل: هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح، فمنهم من اختار المال للجهاد به والإنفاق، وصرفه في وجوه البر؛ كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير الصحابة، وكان قيس بن سعد يقول: اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى، ومنهم من اختار الفقر والتقلل؛ كأبي ذر وجماعة من الصحابة معه، وهؤلاء نظروا الى آفات الدنيا وخشوا الفتنة بها، وأولئك نظروا الى مصالح الإنفاق وثمراته العاجلة والآجلة، والفرقة الثالثة لم تختر شيئا، بل كان اختيارها ما اختاره الله لها. انتهى.
والله أعلم.