الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فان الإهلاك يقع على قرى الكفار الذين أقيمت عليهم الحجة، وبقوا مصرين على الكفر، فقد جاء في تفسير الطبري: وقوله: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)، يقول: ولم نكن لنهلك قرية وهي بالله مؤمنة، إنما نهلكها بظلمها أنفسها: بكفرها بالله، وإنما أهلكنا أهل مكة بكفرهم بربهم، وظلم أنفسهم. اهـ.
وفي تفسير القرطبي: (وما كنا مهلكي القرى) سقطت النون للإضافة، مثل: "ظالمي أنفسهم"، (إلا وأهلها ظالمون)، أي: لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك؛ لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم. وفي هذا بيان لعدله، وتقدسه عن الظلم. أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين، إلا بعد تأكيد الحجة، والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم. اهـ.
وفي تفسير أبي السعود: وقوله تعالى: {وما كنا مهلكي القرى}، عطف على: ما كان ربك، وقوله تعالى: {إلا وأهلها ظالمون} استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: وما كنا مهلكين لأهل القرى بعدما بعثنا في أمها رسولًا يدعوهم إلى الحق، ويرشدهم إليه، في حال من الأحوال، إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا، والكفر بآياتنا، فالبعث غاية؛ لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية، لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث ... اهـ.
وفي فتح القدير للشوكاني: وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولًا يدعوهم إلى الحق، إلا حال كونهم ظالمين، قد استحقوا الإهلاك؛ لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وتأكيد الحجة عليهم، كما في قوله سبحانه: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. اهـ.
والضابط في ذلك هو: حصول الظلم والكفر بعد إقامة الحجة، فقد ذكر أهل العلم أن الله تعالى لا يعذب أحدًا حتى تقوم عليه الحجة، كما قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ {يونس:13}.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: الله سبحانه لا يعاقب شرعًا ولا قدرًا إلا بعد قيام الحجة، ومخالفة أمره، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذَبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا {الإسراء: 15}.
وقال ابن القيم: فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به؛ سواء علم أو جهل، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به، ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه. انتهى.
وأما قرى المسلمين التي انتشر فيها الفجور والعصيان، فلا يبعد أن يهلكهم الله بسبب فسوقهم؛ لدخول ذلك في الظلم، ولا يحصل ذلك إلا إذا شاع المنكر، ولم ينكر، فقد جاء في تفسير ابن عطية: ومعنى الآية: أن الله تعالى يقيم الحجة على عباده بالرسل، فلا يعذب إلا بعد نذارة، وبعد أن يتمادى أهل القرى في ظلم وطغيان، و«الظلم» هنا يجمع الكفر، والمعاصي، والتقصير في الجهاد. اهـ
وفي الحديث: والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني.
وقال ابن العربي في الأحكام عند الكلام على آية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {الأنفال:25}، قال -رحمه الله تعالى-: المختار عندنا: أنها فتنة المناكير بالسكوت عليها، أو التراضي بها, وكل ذلك مهلك, وهو كان داء الأمم السالفة، قال الله سبحانه: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}، وقد قدمنا من تفسير قوله: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}: أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده. وثبت أن أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: {أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم, إذا كثر الخبث}. وقال عمر: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة, ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلوا العقوبة كلهم.
وتحقيق القول في ذلك: أن الله قال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، وقال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، فقد أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة, وأنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد, وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب, بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره, فإذا سكت عنه فكلهم عاص, هذا بفعله, وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل; فانتظم الذنب بالعقوبة, ولم يتعد موضعه, وهذا نفيس لمن تأمله. اهـ.
والله أعلم.