الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعبد يخاف مكر الله؛ لأنه يسيء الظن بنفسه، ويستحضر تقصيرها وتفريطها، فيخشى أن يأخذه الله ببعض ذنوبه.
قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، فَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ التَّفْتِيشِ، وَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ، فَيَرَى الْمَسَاوِئَ مَحَاسِنَ، وَالْعُيُوبَ كَمَالًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَرَى مَسَاوِئَ مَحْبُوبِهِ وَعُيُوبَهُ كَذَلِكَ.
فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، وَمَنْ أَحْسَنَ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ. انتهى.
ثم هو يثق بالله لإحسانه الظن به تعالى، فهو يعلم أنه سبحانه أهل الكرم والعفو والمغفرة، وأنه إن عاقبه، فقد عدل فيه ولم يظلمه، فهو يؤمل فضله ويرجو بره، ويحسن الظن به لاستحضاره جميل صفاته تبارك وتعالى، فهو بين هذين الأمرين يسير، مشاهدة منة الله تعالى واستحضار فضله الموجب حسن الظن به، والثقة بما عنده، والفكرة في عيوبه وتقصيره وإساءته، الموجب الخوف وعدم الأمن من مكر الله تعالى، وحسن ظنه هذا على هذا الوجه المذكور هو الذي يحمله على تحسين العمل والاجتهاد في الطاعة؛ لاستحضاره أن الله هو الذي يثيبه عليها، فهو يطيع الله جهده لحسن ظنه به، وعلمه أنه يثيبه، ويخشى مع ذلك أن يرد الله طاعته بسبب بعض الآفات الخفية، فيزيده هذا اجتهادا في تجويد العمل وتخليصه من الآفات، فمثل هذا العبد على سبيل نجاة.
قال ابن القيم رحمه الله: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّجَاءَ وَحُسْنَ الظَّنِّ، إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وَثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ بِهَا ثُمَّ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَيَرْجُوهُ أَنْ لَا يَكِلَهُ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُوصِلَةً إِلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَيَصْرِفَ مَا يُعَارِضُهَا وَيُبْطِلَ أَثَرَهَا. انتهى.
ولابن القيم -رحمه الله- كلام بديع، يبين فيه أن الجمع بين هذين الأمرين هو سر سعادة العبد في الدنيا والآخرة.
فيقول -طيب الله ثراه-: فمن أراد الله به خيراً، فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه، ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل. وهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح من حديث بريدة -رضي الله تعالى عنه-: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة، والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل، توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً، ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والافلاس المحض، دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه، حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه، فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته. ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى. انتهى.
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الظن به، وألا يؤمننا مكره بمنه وكرمه.
والله أعلم.