فعل الحسنات بعد التوبة من كمالها

13-12-2017 | إسلام ويب

السؤال:
هل صحيح أن الاجتهاد بالطاعة بعد التوبة، يكون على قدر الجرم الذي تاب منه الشخص؟ فمثلًا طاعة التائب من القتل، يجب أن تكون أعلى وأشد، وأن يكون مجتهدًا أكثر من التائب من شرب الخمر.

الإجابــة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالتوبة لها شروط لا بد من تحققها، وهي: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم معاودته، والندم على فعله.

وإذا كان الذنب متعلقًا بحق آدمي، وجب رد الحق إليه، وبدون استيفاء الشروط، لا تكون التوبة صحيحة.

فإذا استوفت التوبة هذه الشروط المذكورة، وكانت في الوقت الذي تقبل فيه التوبة؛ فهي صحيحة مقبولة قطعًا على الصحيح، قال ابن رجب -رحمه الله-: وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ"، قَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنَةِ: التَّوْبَةُ مِنْ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ وَرَدَ ذلك صريحًا في حديث مرسل... وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ ذَنْبُهُ، أَوْ يُتَابُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17]، وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، وَقَوْلِهِ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، وَقَوْلِهِ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]، وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] الْآيَتَيْنِ...

وَظَاهِرُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَاجْتَمَعَتْ شُرُوطُ التَّوْبَةِ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ، كَمَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ إِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِسْلَامًا صَحِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. انتهى.

وانظر الفتوى رقم: 188067.

وأما فعل الحسنات بعد التوبة، والإكثار من الطاعات، فهو من كمال التوبة، ومن علامات صدقها، وبقدر إحسان الشخص واجتهاده، يكون ذلك دليلًا على خلوص توبته، وقد يقوم بقلب فاعل الذنب الأخف من الندم، ما يحمله على اجتهاد زائد على اجتهاد صاحب الذنب الأكبر، ومع ذا فتوبة الآخر مقبولة، إن استوفت شروطها -كما ذكرنا-، ولأن استيفاء تلك الشروط أمر غيبي.

ومن ثم؛ فقبول التوبة أمر غيبي؛ فإن العاقل الحازم لا يزال خائفًا من رد توبته، ومن ثم؛ فإنه يحدث من الطاعات ما يزيد به حاله على ما كان قبل المعصية، فإنه يخشى أن يرد الله توبته، ولا يقبلها، فتكون طاعاته تلك علامة عاجلة على قبول توبته، وبقدر عظم الذنب ينبغي أن يكون الاجتهاد، وإن لم يكن ذلك شرطًا من شروط قبول التوبة -كما بينا-.

والحاصل: أن العبد الصادق يتهم توبته أبدًا، ويزيد من الطاعات رجاء أن تقبل، ويحسن ظنه بربه، عالمًا أن توبته مقبولة إن استوفت شروطها، لكن الشأن في توفية هذه الشروط، وكلما عظمت جنايته، كان ذلك أدعى لانكسار قلبه، وتحرقه على ما بدر منه، ومن ثم زيادته في الطاعات واجتهاده في فعل الحسنات، قال ابن القيم -رحمه الله-: وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ: طُمَأْنِينَتُهُ، وَوُثُوقُهُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مَنْشُورًا بِالْأَمَانِ، فَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ التُّهْمَةِ. وَمِنْ عَلَامَاتِهَا: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَاسْتِمْرَارُ الْغَفْلَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَحْدِثَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ.

فَالتَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الصَّحِيحَةُ لَهَا عَلَامَاتٌ.

مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْخَوْفُ مُصَاحِبًا لَهُ، لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَخَوْفُهُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ الرُّسُلِ لِقَبْضِ رُوحِهِ: {أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، فَهُنَاكَ يَزُولُ الْخَوْفُ.

وَمِنْهَا: انْخِلَاعُ قَلْبِهِ، وَتَقَطُّعُهُ نَدَمًا وَخَوْفًا، وَهَذَا عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجِنَايَةِ وَصِغَرِهَا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110]، قَالَ: تَقَطُّعُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ انْصِدَاعَ الْقَلْبِ وَانْخِلَاعَهُ، وَهَذَا هُوَ تَقَطُّعُهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ قَلْبُهُ حَسْرَةً عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَخَوْفًا مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَطَّعْ قَلْبُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَرَّطَ حَسْرَةً وَخَوْفًا، تَقَطَّعَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَعَايَنَ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ، وَعِقَابَ الْعَاصِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَطُّعِ الْقَلْبِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ.

إلى أن قال -رحمه الله-: فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، فَلْيَتَّهِمْ تَوْبَتَهُ، وَلْيَرْجِعْ إِلَى تَصْحِيحِهَا، فَمَا أَصْعَبَ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا أَسْهَلَهَا بِاللِّسَانِ وَالدَّعْوَى! وَمَا عَالَجَ الصَّادِقُ بِشَيْءٍ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ الصَّادِقَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. انتهى.

والله أعلم.

www.islamweb.net