الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فعلى القول بأن صلاة الجماعة في المسجد فرضُ كفاية، فإن هذا الفرض الكفائي لا يسقط عن أهل القرية إلا بصلاة اثنين في المسجد؛ لأن هذا هو أقل عدد تنعقد به الجماعة، جاء في الموسوعة الفقهية: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ: إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ. وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ... اهــ.
وقال ابن قدامة في المغني: وَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ـ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا. اهـ.
وإن كنت تعني بقولك: "معاق" أي: ذهنيًّا، أي: مجنون؛ فإن الجماعة لا تنعقد به، ولا بالصبي الذي لا يعقل؛ كمن عمره سنة، بل لا تنعقد أيضًا عند الجمهور بالصبي المميز، جاء في الموسوعة الفقهية: وَيَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاِنْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ فِي الْفُرُوضِ أَنْ يَكُونَ الإْمَامُ وَالْمَأْمُومُ كِلاَهُمَا بَالِغَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ امْرَأَةً، فَلاَ تَنْعَقِدُ بِصَبِيٍّ فِي فَرْضٍ؛ لأِنَّ صَلاَتَهُمَا فَرْضٌ، وَصَلاَةُ الصَّبِيِّ نَفْلٌ. أَمَّا فِي النَّوَافِل فَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِصَبِيَّيْنِ، أَوْ بَالِغٍ وَصَبِيٍّ اتِّفَاقًا. اهــ.
لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً، وَلِحُصُولِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ بِانْضِمَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِمَامِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، فَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِالْعَدَمِ. اهـ.
وبهذا تعلم جواب سؤالك حول اقتداء الصبي والمعاق ذهنيًّا بذلك الإمام هل تحصل به الجماعة أم لا.
وأما هل يذهب الإمام بعد أن يؤذن إلى البيت - بيته، أو بيت غيره من الناس- ليؤمهم إذا لم يأت أحد للمسجد؟
فالجواب: لا يذهب، بل يصلي في المسجد، ولو وحده؛ لا سيما إذا كان إمامًا راتبًا يتقاضى أجرة على إمامته، وقد نص الفقهاء على هذا، جاء في حاشية الجمل على شرح المنهاج: إذَا كَانَ عَلَيْهِ الْإِمَامَةُ فِي مَسْجِدٍ، فَلَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ يُصَلِّي مَعَهُ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِيهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ: الصَّلَاةُ، وَالْإِمَامَةُ، فَإِذَا فَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ الْآخَرُ، بِخِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ التَّدْرِيسُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّعْلِيمُ بِدُونِ مُتَعَلِّمٍ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ، فَعَلَيْهِ أَمْرَانِ ... ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الْإِثْمَ بِالتَّرْكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَرْكٌ لِلْإِمَامَةِ أَوْ التَّدْرِيسِ، بَلْ الْمُرَادُ وُجُوبُ ذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمَعْلُومِ ... اهـ.
ونص فقهاء المالكية على أن له ثواب الجماعة أيضًا، وأنه يكره له أن يبحث عن جماعة في مسجد آخر، وأحرى في البيوت، جاء في شرح خليل للخرشي: وَالْإِمَامُ الرَّاتِبُ كَجَمَاعَةٍ. أَيْ: أنَّ الْإِمَامَ الْمُنْتَصِبَ لِلْإِمَامَةِ الْمُلَازِمَ لَهَا فِي مَسْجِدٍ أَوْ مَكَان جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْجَمْعِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَاتِبًا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْ بَعْضِهَا إذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ وَنَوَى الْإِمَامَةَ، زَادَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِيمَا هُوَ رَاتِبٌ فِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ، وَلَهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً ... وَإِذَا أَقَامَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ طَلَبُ جَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، بَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ ... اهـ .
وينبغي لذاك الإمام أن يجتهد في نصح أهل القرية، وتذكيرهم بالله تعالى؛ لكي يحرصوا على أداء الصلاة في المسجد؛ فإنها من أعظم شعائر الدين، وما بُنِيَتِ المساجدُ لتهجر، ويعتاض الناس عن الصلاة في البيوت عنها.
والله تعالى أعلم.