الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد ذكرنا في الفتوى رقم: 144847. مذاهب أهل العلم حول تكبيرات الانتقال, وذكرنا في آخرها أن مذهب الحنابلة مذهب قوي, وفيه جمعٌ بين الأدلة، وسبب اختلاف أهل العلم في هذه المسألة هو تعارض ما ثبت من مواظبته صلى الله عليه وسلم على التكبير مع ما نقل من بعض أقواله فيها، جاء في بداية المجتهد لابن رشد: وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كُلَّهُ، وَمَنْ أَوْجَبَ مِنْهُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَقَطْ: مُعَارَضَةُ مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
فَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ، فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «إِذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ»، فَمَفْهُومُ هَذَا هُوَ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى هِيَ الْفَرْضُ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّكْبِيرِ فَرْضًا لَذَكَرَهُ لَهُ، كَمَا ذَكَرَ سَائِرَ فُرُوضِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ، فَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي، فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، "وَمِنْهَا: حَدِيثُ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ: «صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، وَانْصَرَفْنَا أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: أَذْكَرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَالْقَائِلُونَ بِإِيجَابِهِ تَمَسَّكُوا بِهَذَا الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَفْعَالِهِ الَّتِي أَتَتْ بَيَانًا لِوَاجِبٍ، مَحْمُولَةً عَلَى الْوُجُوبِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، «وخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وَقَالَتِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى: مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ؛ وَلِذَلِكَ «أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَقَالَ عِمْرَانُ: أَذْكَرَنِي هَذَا بِصَلَاتِهِ صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ التَّكْبِيرَ كُلَّهُ نَفْلًا، فَضَعِيفٌ، وَلَعَلَّهُ قَاسَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ مِمَّا لَيْسَتْ بِوَاجِبٍ؛ إِذْ قَاسَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ عَلَى سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ: مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ»، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ ... فمن أهل العلم من حمل أدلة مشروعية التكبير على الوجوب, ومنهم من حملها على الاستحباب, يقول النووي في المجموع أثناء الحديث عن تكبيرات الصلاة: وهذه كلها عندنا سنة إلا تكبيرة الإحرام، فهي فرض. هذا مذهبنا، ومذهب جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين, وقال أحمد بن حنبل: جميع التكبيرات واجبة، واحتج لأحمد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبرهن. انتهى" ودليلنا على أحمد حديث: "المسيء صلاته"، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بتكبيرات الانتقالات، وأمره بتكبيرة الإحرام، وأما فعله صلى الله عليه وسلم فمحمول على الاستحباب؛ جمعًا بين الأدلة. انتهى.
وما دامت الأخت السائلة مصابة بالوسوسة، وتعاني منها - كما دلت على ذلك أسئلتها السابقة - فالذي نفتيها به هو أن تأخذ بقول جمهور أهل العلم، وانظري الفتوى رقم: 181305، عن مشروعية أخذ الموسوس بأسهل الأقوال وأرفقها به.
والله أعلم.