الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا إشكال في أن نقل ما تكلم به الجني على لسان الإنسي ليس بمحرم شرعًا، واحتمال كذب الجني لا يوجب تحريم نقل كلامه، وهذا أمر ظاهر، لا يحتاج إلى استدلال، وهل احتمال كذب الإنسي في كلامه يوجب تحريم نقله؟! كلا.
وكتب العلماء مشحونة بتناقل مثل تلك الأخبار من باب الاستئناس والاستشهاد، لا من باب التصديق والاعتماد، فمثلًا قد أخرج اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، والذهبي في معجم الشيوخ، عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سمعت أحمد بن نصر الشهيد يقول: مررت برجل وقد صرع , فجئت أقرأ في أذنه, فإذا قائل يقول: دعني أقتله, فإنه يقول: القرآن مخلوق. وقال الذهبي: هذا إسناد ثابت.
وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي: عن أبي بكر المرُّوذي، قال: حدثني أبو مُحمد اليماني بطرسوس، قال: كنتُ باليمن، فقال لي رجل: إن ابنتي قد عرضَ لها عارض، فمضيتُ معه إلى عَزّام عِندنا باليمن، فَعزم عليها، فأخذ على الذي عَزَم عليه أن لا يعرضَ لها، فمكثَ نحوًا من ستة أشهر، ثم جاءني أبوها، فقال: قد عادَ إليها، قال: قلتُ: فاذهب إلى العَزّام، فذهب إليه، فَعزم عليه، فكلَّمه الجِنّي، فقال: ويلك! أليس قد أخذتُ عليك أن لا تقربها؟ قال: فقال: إنه وردَ علينا موتُ أحمد بن حنبل، فلم يبقَ أحد من صالحي الجن إلا حَضره، إلا المرَدَة، فإني تَخلَّفتُ معهم.
لكن من جهة المصلحة: فالحكمة تقتضي الكف عن نشر مثل هذه الأخبار والمقاطع في هذا الزمن الذي ضعفت فيه العقول، ورقّت فيه الأفهام، وولع الناس فيه بالتكذيب والتشنيع، فكم من خطيب نقل مثل هذه الأخبار، فطارت القنوات والصحف بذلك، وشنعوا عليه غاية التشنيع، ووصفوه بالخرافة والدجل! وكم أدى ذلك إلى افتتان كثير من الناس، ونفورهم عن الدعاة والعلماء!
ومما لا تخطئه عين الناظر شيوع الاعتراض على السنن الثابتة التي لا يستسيغها الذوق الغربي المعاصر، والطعن في العلماء بها، فكيف بما دون ذلك؟!
وما أحسن قول إمام أهل السنة الإمام أحمد: إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البين الذي لا شك فيه، وليت الناس إذا أمروا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه.
وليت الخطباء والدعاة وأتباعهم جعلوا هذه العبارة نصب أعينهم، فاقتصروا على نشر الأمور البينة المحكمة من الدين، وكفوا عن بث المشتبهات، والأخبار، والقصص التي لا تحتملها عقول أبناء زمانهم؛ لئلا يكون حالهم كحال من أراد أن يطب زكامًا فأحدث جذامًا!.
وانظر للفائدة الفتوى رقم: 289756.
والله أعلم.