الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمدح شيئا إلا بما هو فيه، فإن مدح الشيء بما ليس فيه، كذب مجانف للصدق، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثن على بعض القبائل، إلا بما فيهم من خصال الإيمان والخير، ومكارم الأخلاق.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأسلم، وأشجع، وغفار موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله.
قال ابن حجر: وهذه فضيلة ظاهرة لهؤلاء القبائل، والمراد من آمن منهم، والشرف يحصل للشيء إذا حصل لبعضه، قيل: إنما خصوا بذلك؛ لأنهم بادروا إلى الإسلام، فلم يسبوا كما سبي غيرهم، وهذا إذا سلم يحمل على الغالب. اهـ.
وفيهما عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار، خيرا من بني تميم وبني أسد، ومن بني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة. فقال رجل: خابوا وخسروا، فقال: هم خير من بني تميم ومن بني أسد، ومن بني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة.
قال العيني: وخيريتهم بسبقهم إلى الإسلام، وبما كان فيهم من مكارم الأخلاق ورقة القلوب. اهـ. من عمدة القاري.
وفيهما عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو في مجلس عظيم من المسلمين: «أحدثكم بخير دور الأنصار» قالوا: نعم، يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بنو عبد الأشهل» قالوا: ثم من؟ يا رسول الله قال: «ثم بنو النجار» قالوا: ثم من؟ يا رسول الله، قال: ثم «بنو الحارث بن الخزرج» قالوا: ثم من؟ يا رسول الله قال: ثم «بنو ساعدة» قالوا: ثم من؟ يا رسول الله قال: «ثم في كل دور الأنصار خير».
قال القرطبي: وتفضيل بعض هذه القبائل على بعض، إنما هو بحسب سبقهم للإسلام، وأفعالهم فيه. وتفضيلُهم خبر من الشارع عما لهم عند الله تعالى من المنازل والمراتب، فلا يُقدَّمُ من أخر، ولا يؤخر من قدَّم. اهـ. من المفهم.
وأما قولك: (وهل هي مخصوصة لكل فرد أيضا) فإن كنت تقصد السؤال عن هذا التفضيل هل هو لكل فرد من هذه القبائل؟ فالجواب: لا، بل هذا حاصل لمن اتصف منهم بموجب ذلك التفضيل، وهو محمول على الغالب، كما تقدم في كلام ابن حجر.
ولتوضيح معنى تفضيل الأنساب في الشرع، وعلاقة ذلك بفضل الأفراد، ننقل لك كلاما طويلا، لكنه نفيس، محرر مدقق، جامع لأطراف المسألة للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -لا يقوى على تحريره إلا مثله رحمه الله- ، فاقرأه إن شئت.
يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة: ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم. وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء، وبنو المطلب معهم في ذلك، فالصلاة عليهم من هذا الباب، فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلا صالحا، بل كان عاصيا.
وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله عز وجل للشخص المعين، وكرامته عند الله تعالى، فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى. كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وقد ثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس أكرم؟ فقال: "أتقاهم". فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فيوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "أفعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»". وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "«من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»" رواه مسلم.
ولهذا أثنى الله في القرآن على السابقين الأولين من المهاجرين، وأما نفس القرابة فلم يعلق بها ثوابا ولا عقابا، ولا مدح أحدا بمجرد ذلك، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "«الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»"، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة، كان معدن الذهب خيرا؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه، فإن قدر أنه تعطل ولم يخرج ذهبا، كان ما يخرج الفضة أفضل منه.
فالعرب في الأجناس، وقريش فيها، ثم هاشم في قريش، مظنة أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في غيرهم. ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلا عن وجوده في سائر العرب وغير العرب، وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس.
فلا بد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل. كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب، أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش، أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم، أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم.
فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب، دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقا، ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلا عمن هو أعظم إيمانا وتقوى. فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان.
بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية; فالأول يفضل به؛ لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد.
والثاني: يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى لله، كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت، فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلا يستدل بالأسباب والعلامات.اهـ.
وقال أيضا في نفس المصدر: أما الأمور الخارجية عن نفس الإيمان والتقوى، فلا يحصل بها فضيلة عند الله تعالى، وإنما يحصل بها الفضيلة عند الله إذا كانت معينة على ذلك; فإنها من باب الوسائل لا المقاصد، كالمال والسلطان، والقوة والصحة ونحو ذلك، فإن هذه الأمور لا يفضل بها الرجل عند الله، إلا إذا أعانته على طاعة الله بحسب ما يعينه.
قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [سورة الحجرات: 13]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سئل: أي الناس أكرم؟ فقال: "أتقاهم لله". قيل: ليس عن هذا نسألك. قال: "يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله". قيل: ليس عن هذا نسألك. قال: "أفعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ".
بين لهم أولا: أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي، فإبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من يوسف، وإن كان أبوه آزر، وهذا أبوه يعقوب. وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل، وإن كان هذا أولاده أنبياء، وهذا أولاده ليسوا بأنبياء.
فلما ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب، قال لهم: فأكرم أهل الأنساب من انتسب إلى الأنبياء، وليس في ولد آدم مثل يوسف; فإنه نبي ابن نبي ابن نبي.
فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم، قال: "«أفعن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»" بين أن الأنساب كالمعادن، فإن الرجل يتولد منه كما يتولد من المعدن الذهب والفضة.
ولا ريب أن الأرض التي تنبت الذهب أفضل من الأرض التي تنبت الفضة. فهكذا من عرف أنه يلد الأفاضل، كان أولاده أفضل ممن عرف أنه يلد المفضول. لكن هذا سبب ومظنة وليس هو لازما; فربما تعطلت أرض الذهب، وربما قل نبتها ; فحينئذ تكون أرض الفضة أحب إلى الإنسان من أرض معطلة. والفضة الكثيرة أحب إليهم من ذهب قليل لا يماثلها في القدر.
فلهذا كان أهل الأنساب الفاضلة يظن بهم الخير، ويكرمون لأجل ذلك. فإذا تحقق من أحدهم خلاف ذلك، كانت الحقيقة مقدمة على المظنة. وأما ما عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل، إنما يثبت على ما يعمله هو من الأعمال الصالحة، فلا يحتاج إلى دليل، ولا يجتزئ بالمظنة.
فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم. فإذا قدر تماثل اثنين عنده في التقوى، تماثلا في الدرجة، وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه، لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى، كان أفضل لزيادة تقواه.
ولهذا لم يثن الله على أحد في القرآن بنسبه أصلا: لا على ولد نبي، ولا على أبي نبي، وإنما أثنى على الناس بإيمانهم وأعمالهم. وإذا ذكر صنفا وأثنى عليهم ; فلما فيهم من الإيمان والعمل، لا لمجرد النسب.
ولما ذكر الأنبياء -ذكرهم في الأنعام- وهم ثمانية عشر قال: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} [سورة الأنعام: 87] . فبهذا حصلت الفضيلة باجتبائه سبحانه وتعالى، وهدايته إياهم إلى صراط مستقيم، لا بنفس القرابة.
وقد يوجب النسب حقوقا، ويوجب لأجله حقوقا، ويعلق فيه أحكاما من الإيجاب والتحريم والإباحة، لكن الثواب والعقاب والوعد والوعيد على الأعمال لا على الأنساب.
ولما قال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [سورة آل عمران: 33] ، وقال: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} [سورة النساء: 54] ، كان هذا مدحا لهذا المعدن الشريف، لما فيهم من الإيمان والعمل الصالح. ومن لم يتصف بذلك منهم لم يدخل في المدح.
ولذلك إذا كان الرجل من أفناء العرب والعجم، وآخر من قريش، فهما عند الله بحسب تقواهما: إن تماثلا فيها تماثلا في الدرجة عند الله، وإن تفاضلا فيها تفاضلا في الدرجة. وكذلك إذا كان رجل من بني هاشم، ورجل من الناس أو العرب أو العجم، فأفضلهما عند الله أتقاهما، فإن تماثلا في التقوى تماثلا في الدرجة، ولا يفضل أحدهما عند الله لا بأبيه ولا ابنه، ولا بزوجته، ولا بعمه، ولا بأخيه.
إذا تبين ذلك، فالفضائل الخارجية لا عبرة بها عند الله تعالى، إلا أن تكون سببا في زيادة الفضائل الداخلية. وحينئذ فتكون الفضيلة بالفضائل الداخلية، وأما الفضائل البدنية فلا اعتبار بها إن لم تكن صادرة عن الفضيلة النفسانية. وإلا فمن صلى وصام، وقاتل وتصدق، بغير نية خالصة لم يفضل بذلك; فالاعتبار بالقلب. كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "«ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»" وحينئذ فمن كان أكمل في الفضائل النفسانية، فهو أفضل مطلقا. اهـ.
والله أعلم.