الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في عظم جرم من يتجسس على المسلمين لصالح عدوهم، وراجع الفتوى رقم: 191389. ولكن الله تعالى بعظيم مغفرته، وواسع رحمته، لم يغلق باب التوبة عن أحد من البشر، فمن تاب تاب الله عليه، مهما عظم جرمه، وكبر ذنبه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء:110}، وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان فيك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
ومعلوم أن التوبة من الذنوب المتعلقة بظلم الناس والتعدي على حقوقهم، لا تصح إلا بأداء الحق، أو استحلال الظالم من المظلوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه، أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه. رواه البخاري.
قال العيني في (عمدة القاري): قوله: "فليتحلله" قال الخطابي: معناه يستوهبه، ويقطع دعواه عنه ... ويقال: معنى "فليتحلله" إذا سأله: أن يجعله في حل. اهـ.
وإذا لم يستطع المذنب رد الحقوق إلى أصحابها، أو استحلالهم منها، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فما تيسر من ذلك، فافعله، وما لم يتيسر، فالجأ إلى الله تعالى في أن يرضي عنك خصومك يوم القيامة، فقد ذكر الغزالي في كتاب: (منهاج العابدين) كيفية التوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الناس، في المال، وفي النفس، وفي العرض، وفي الحرمة، والدين، وذكر تفصيل ذلك، ونبه على أن الاستحلال يكون إذا لم يخش الظالم زيادة غيظ المظلوم، أو هيج فتنة، قال -رحمه الله-: فإن خشيت ذلك، فالرجوع إلى الله تعالى ليرضيه عنك، والاستغفار الكثير لصاحبه ... وجملة الأمر، فما أمكنك من إرضاء الخصوم عملت. وما لم يمكنك، راجعت الله سبحانه وتعالى بالتضرع، والصدق ليرضيه عنك، فيكون ذلك في مشيئة الله تعالى يوم القيامة، والرجاء منه بفضله العظيم، وإحسانه العميم: أنه إذا علم الله الصدق من قلب العبد، فإنّه سبحانه يرضي خُصَمَاءَه من خزانة فضله. اهـ.
ونقل ذلك الجمل في حاشيته على شرح المنهج، ثم قال: قال الزركشي: وهو في غاية الحسن، والتحقيق. اهـ.
ثم عليك بعد الدعاء لأصحاب الحقوق عليك، أن تكثر من أعمال البر والطاعة، تعويضًا عما فات؛ فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ، تَمْحُهَا. رواه أحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح. وحسنه الألباني.
والله أعلم.