الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا القول خطأ، وإن كان قد ذهب إليه ذاهبون من العلماء؛ كابن حزم -رحمه الله-، قال أبو محمد بن حزم -رحمه الله- في المحلى: وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُقْتَلْ، وَلَمْ يُصْلَبْ، وَلَكِنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ رَفَعَهُ إلَيْهِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فَالْوَفَاةُ قِسْمَانِ: نَوْمٌ، وَمَوْتٌ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة:117] وَفَاةَ النَّوْمِ، فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى وَفَاةَ الْمَوْتِ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُتِلَ أَوْ صُلِبَ، فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، حَلَالٌ دَمُهُ وَمَالُهُ؛ لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْآنَ، وَخِلَافِهِ الْإِجْمَاعَ. انتهى.
وأبى هذا الجماهير من العلماء، وقرروا أن عيسى -عليه السلام- رفع إلى السماء حيًّا، وتأولوا التوفي المذكور في الآيات بوجوه من التأويل، ويدل لصحة ما ذهب إليه الجماهير قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ {النساء:159}، فالضمير في موته راجع إلى عيسى -عليه السلام-، فدل بوضوح على أنه لم يمت، قال العلامة الأمين الشنقيطي -طيب الله ثراه- في دفع إيهام الاضطراب: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ الْآيَةَ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِهَا وَفَاةُ عِيسَى -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [157:4]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الْآيَةَ [159:4]، عَلَى مَا فَسَّرَهَا بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالْحُسْنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ... وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَدَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَجَزَمَ ابْنُ كَثِيرٍ، بِأَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: «قَبْلَ مَوْتِهِ»، أَيْ: مَوْتِ عِيسَى -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: «مُتَوَفِّيكَ»، لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَدْ مَضَى، وَهُوَ مُتَوَفِّيهِ قَطْعًا يَوْمًا مَا، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَدْ مَضَى، وَأَمَّا عَطْفُهُ: «وَرَافِعُكَ» إِلَى قَوْلِهِ: «مُتَوَفِّيكَ»، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَلَا الْجَمْعَ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى «مُتَوَفِّيكَ» أَيْ: مُنِيمُكَ، «وَرَافِعُكَ إِلَيَّ»، أَيْ: فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَفَاةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [60:6]، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [42:39]، وَعَزَا ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا... الْحَدِيثَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ «مُتَوَفِّيكَ» اسْمُ فَاعِل تَوَفَّاهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَوَفَّى فَلَانٌ دَيْنَهُ، إِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى: «مُتَوَفِّيكَ» عَلَى هَذَا: قَابِضُكَ مِنْهُمْ إِلَيَّ حَيًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بِأَنَّهُ تَوَفَّاهُ سَاعَاتٍ أَوْ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْيَاهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَصْدِيقِهَا وَتَكْذِيبِهَا. انتهى.
وإذا علمت ما هو الحق في هذه المسألة، فاشدد عليه يديك، ولا يضرك ما سلف من الاعتقاد الخاطئ، إذ كنت مخطئًا، والمخطئ غير مؤاخذ -إن شاء الله-؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا {البقرة:286}، قال الله في جوابها: قد فعلت. أخرجه مسلم.
ولا تبعة على أبيك -إن شاء الله-؛ سواء اعتقد هذا القول بسبب قولك أم لم يعتقده، فإن الخطأ معفو عنه لهذه الأمة.
وقد علمت أن بعض أكابر العلماء ذهب إلى هذا المذهب، وأخطأ في ذلك، فلا مسوغ لهذا القلق، فرحمة الله تعالى قد وسعت كل شيء، -نسأل الله لنا ولأبيك المغفرة والرحمة-.
والله أعلم.