الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فسبب نزول هذه الآية: أن مشركي مكة أنكروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون الله تعالى أرسل بشرًا، فأنزل الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الانبياء:7].
وأهل الذكر هنا هم: أهل الكتاب من الأمم السابقة الذين بعث الله إليهم الرسل، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في أصول الفقه، ولهذا فإن العلماء يستدلون بهذه الآية على أن أهل الذكر لفظ عام يشمل كل من يعزى إليه علم، فأهل الذكر هم أهل الاختصاص في كل فن.
وعلى هذا، فالواجب على من لم يعلم أن يسأل من يعلم، كما أمر الله تعالى. قال القرطبي: لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله -عزَّ وجلَّ-: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الانبياء:7]. ولم يختلفوا أن العامة لا يجوز لها الفتيا لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم. اهـ.
وأما الحديث، فقد رواه الإمام أحمد في المسند، ولفظه: عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم، قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك. وقد تكلم أهل العلم في سنده. وهو يدل على أن الله تبارك وتعالى فطر عباده المؤمنين على معرفة الحق والسكون إليه، وقبوله، وركز في طباعهم محبة ذلك والنفور عن ضده، وفي هذا المعنى جاء قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة. رواه البخاري ومسلم، وفيه قول الله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30].
فصاحب الفطرة السليمة إذا اشتبه عليه أمر هل هو حلال أم حرام، أو هو من البر أو الإثم، استفتى قلبه، فما سكن إليه القلب وانشرح له الصدر واطمأنت إليه النفس، فهو البر والحلال، وما كان خلاف ذلك، فهو الإثم والحرام.
أما من تلوثت فطرته بالهوى والشهوات، واقتراف المعاصي، فإنه يفقد هذه الحاسة ولم يعد يميز بين البر والإثم، وهذا في الأمور المشتبهة التي لم يرد فيها نص، وأما ما جاء فيه نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فليس للمؤمن إلا اتباعه وطاعة الله تعالى وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا محل لاستفتاء القلب هنا، وميلُ النفس إلى غير النص، إنما هو اتباع للهوى، كما قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص: 50]. وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم [الأحزاب: 36].
وإذا وجد المسلم في نفسه شيئًا من ذلك، فيجب عليه أن يوطن نفسه على اتباع النصوص الشرعية والرضا بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى هذا، فالآية الكريمة جاءت بالأمر بالسؤال لأهل العلم والاختصاص. وأما الحديث، فهو فيما اشتبه على المسلم من أمر الحلال والحرام، أو البر والإثم، مما لم يرد فيه نص، وليس معناه أن يترك سؤال أهل العلم والتعلم للأحكام الشرعية أو ما يحتاج إليه ويعتمد على قلبه وما اطمأنت إليه نفسه دون الاهتداء بنصوص الوحي والاستعانة بأهل العلم.
والله أعلم.