الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فربنا الرحمن هو الخالق لكل شيء، لا خالق غيره، ولا رب سواه؛ قال الله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {الرعد:16}، وقال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {الزمر:62}.
ومن اعتقد أن غير الله يقدر بنفسه أن يحوّل ويقلب الأعيان حقيقة، لا توهما؛ كأن يقلب الجماد حيوانا، أو الإنسان سمكة مثلا، من اعتقد ذلك، فقد كفر بالله، واعتقد خالقا مع الله سبحانه وتعالى.
وأما من اعتقد أن الله قد يُقْدِر بعض خلقه على ذلك، فلا يكون كفراً، غير أن هذا الضرب من الاعتقاد أصحابه على صنفين: الصنف الأول: من يعتقد ذلك استنادا واتباعا للنصوص من الكتاب والسنة، كإقدار الله سبحانه المسيحَ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، على خلق الطير من الطين، أو ما جاء في الأحاديث الصحيحة من الخوارق التي تكون مع المسيح الدجال في آخر الزمان، وهذا يجب اعتقاده تصديقا لنصوص الوحيين.
والصنف الثاني: من يعتقد ذلك ويدعيه في أناس لم تأت النصوص الشرعية بالإخبار عنهم، أن الله تعالى أقدرهم على تحويل وقلب الأعيان لأخرى، فمدعي ذلك قد قال على الله ما لا يعلم، وأتى بابا من الحرام، وربما جره ذلك إلى الغلو الذي هو وسيلة إلى الشرك بالله العظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما قلب الأعيان إلى ما ليس في طبعها الانقلاب إليه كمصير الخشب حيوانا حساسا متحركا بالإرادة، يبلع عصيا وحبالا ولا يتغير، فليس هذا من جنس مقدور البشر لا معتادا ولا نادرا، ولا يحصل بقوى نفس أصلا؛ ولهذا لما رأى سحرة فرعون ذلك، علموا أنه خارج عن طريقة السحر: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. وهذه الحادثة الخارقة للعادة، فيها إثبات الصانع، وإثبات نبوة أنبيائه؛ فإن حدوث هذا الحادث على هذا الوجه، في مثل ذلك المقام، يوجب علما ضروريا أنه من القادر المختار؛ لتصديق موسى ونصره على السحرة، كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. انتهى.
وقال الحكمي -رحمه الله- في شرح سلم الوصول: قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، تَحَقُّقُ السِّحْرِ وَتَأْثِيرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ بِظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَأَقْوَالِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَهُمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. فَأَمَّا الْقَتْلُ بِهِ، وَالْأَمْرَاضُ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ المرء وزوجه، وأخذه بِالْأَبْصَارِ، فَحَقِيقَةٌ لَا مُكَابَرَةَ فِيهَا. وَأَمَّا قَلْبُ الْأَعْيَانِ كَقَلْبِ الْجَمَادِ حَيَوَانًا، وَقَلْبِ الْحَيَوَانِ مَنْ شَكْلٍ إِلَى آخَرَ، فَلَيْسَ بِمُحَالٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا غَيْرَ مُمْكِنٍ, فَإِنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ, فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عِنْدَمَا يُلْقِي السَّاحِرُ مَا أَلْقَى امْتِحَانًا وَابْتِلَاءً وَفِتْنَةً لِعِبَادِهِ, وَلَكِنَّ الَّذِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْوَاقِعِ مِنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ فِي قِصَّتِهِمْ مَعَ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ التَّخْيِيلُ، وَالْأَخْذُ بِالْأَبْصَارِ حَتَّى رَأَوُا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَيَّاتٍ, فَنُؤْمِنُ بِالْخَبَرِ وَنُصَدِّقُهُ، ولا نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُبَدِّلُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَنَا, وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. انتهى.
والله أعلم.