الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالبدعة كلها سيئة وليس فيها ما هو حسن، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بدعة ضلالة.. ، وإن كنت تقصد السؤال عن بدء التدوين الرسمي للأحاديث النبوية نهاية القرن الأول الهجري بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فراجع للفائدة الفتوى رقم: 8516 .وهذا التدوين الرسمي للحديث الشريف بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يعد بدعة، لأن من ضوابط البدعة أن: كل عملٍ لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي له وعدم المانع من فعله، ففعله الآن بدعة، وبهذا يخرج تدوين الحديث عن نطاق البدعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تدوينه لقيام المانع في عهده وهو خشية اختلاط الحديث بالقرآن، فلما جمع القرآن وكثر حافظوه وأُمن من اختلاط القرآن بغيره انتفى هذا المانع .وإن كنت تقصد السؤال عن بدء التدوين الفردي للأحاديث، فقد بدأ هذا التدوين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك كثير من الروايات بالأسانيد الثابتة تدل على كتابة الحديث في عصره صلى الله عليه وسلم، وتبلغ درجة التواتر. فقد أذن صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالكتابة، وأمر بعضهم بها، ومن ذلك أن رجلاً من أهل اليمن قال في فتح مكة: اكتب لي يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: اكتبوا لأبي شاة. كما عند أبي داود. وأخرج البخاري من حديث وهب بن منبه عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. وكان عبد الله بن عمرو قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكتب بيده ما سمعه منه فأذن له، يقول عبد الله: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه -أي فمه- فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق. رواه أبو داود. وروى البخاري عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا ما في كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. وكتب صلى الله عليه وسلم للملوك والعظماء كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكتب أيضاً إلى أمرائه وعماله كتباً حدد لهم فيها الأنصبة ومقادير الزكاة والجزية والديات.ولا تعكر على هذا الأحاديث التي تدل على النهي عن الكتابة، كحديث أبي سعيد الذي رواه الإمام مسلم وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: لاتكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. فإن هذا النهي كان في أول الأمر حين خيف اشتغال الصحابة عن القرآن واختلاط غيره به، ولتوجيه جهود الصحابة الذين كانوا يحسنون الكتابة إلى كتاب الله، وقد استقر الإجماع بعد ذلك وانعقد -كما يقول الحافظ ابن حجر - على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم.فقام جماعة من الصحابة بكتابة ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم كتب ذلك في صحف خاصة، كالصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، وكصحيفة جابر بن عبد الله وغير ذلك، وقد ذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه "السنة قبل التدوين" جملة كبيرة مما كتبه الصحابة رضي الله عنهم في صدر الإسلام، ومما كتبه التابعون رحمهم الله، كصحيفة همام بن منبه، حتى كثرت الكتابة وانتشرت، ولمزيد من الفائدة انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 631، 16874، 29016.والله أعلم.