الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد وقع هذا التعبير، نعني عن قول الله تعالى بصيغة المضارع، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.
وقالته عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأقرها؛ كما في البخاري أيضا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]. قَالَ: «ذَاكَ العَرْضُ، يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ». والتعبير بالمضارع عن الماضي، أسلوب عربي فصيح معروف، وفائدته استحضار الصورة، كما يقرره البلاغيون.
قال الهاشمي -رحمه الله- في جواهر البلاغة: وقد يعبر بالمضارع عن الماضي، بناء على تشبيه غير الحاضر بالحاضر، في استحضار صورته الماضية، لنوع غرابة فيها، نحو: قوله تعالى «إني أرى في المنام أني أذبحك». انتهى.
وقال ابن الأثير: واعلم أن المبالغة تنقسم إلى أقسام كثيرة، وقد سبق ذكر شيء منها، كالإخبار بالفعل الماضي عن المضارع، وبالمضارع عن الماضي.. انتهى.
ولهذا نظائر في القرآن كثيرة، كقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ {البقرة:127}.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: قوله تعالى: {وإذ يرفع}؛ {إذ} ظرف، عاملها محذوف؛ والتقدير: واذكر إذ يرفع؛ و{يرفع} فعل مضارع؛ والمضارع للحاضر، أو للمستقبل؛ ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال، كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم. انتهى.
فظهر لك بذلك ظهورا جليا، أن ما سألت عنه مما لا إشكال فيه بحال، والحمد لله.
والله أعلم.